<p>ريمون آرون (1905 – 1983) (غيتي)</p>
تراث الانسانثقافةTags: حنة آرندتجان بول سارترريمون آرونالتوتاليتاريةالديمقراطيةكارل ماركسالفلسفة السياسيةاليوم يبدو كل ذلك جزءاً من ماضٍ بعيد قد يراه أبناء الأجيال الجديدة منتمياً إلى ما قبل تاريخ ما. وقد يثير دهشتهم أحياناً إن لم يثر سخريتهم. فما الذي يمكن أن يفهمه مثلاً جمهور المراكز التجارية والروايات التي تباع في السوبرماركت وأفلام الوحوش والخوارق حين يحدثهم أحد عن قيم إنسانية شغلت القرن العشرين وأفكار كبرى زينته وتصارعت في ما بينها من حوله؟ ماذا سيدرك جمهور تلفزيونات اليوم ووسائل إعلامه ومواقع "فيسبوك" و"تويتر" وغيرها إن أخبره أحد أن قسماً كبيراً من مثقفي النصف الثاني من القرن العشرين كانوا يفضلون، باعترافهم، أن يكونوا "على خطأ مع سارتر من أن يكونوا على صواب مع ريمون آرون"؟ وهل تراهم ينظرون بعين الجدية إلى الرئيس الفرنسي الراحل فاليري جيسكار ديستان وهو يبدي سعادته القصوى متذكراً كيف أنه أجلس ذات يوم في قصر الإليزيه وهو في سدة الحكم، سارتر إلى يساره وآرون إلى يمينه وقد جاءاه يطلبان تدخله لمساعدة الهاربين من "جحيم الانتصار الشيوعي في فيتنام بعد اندحار القوات الأميركية هناك"؟
صناعة جيل مبارك
لا ريب أن هذا كله سيبدو فصلاً مضحكاً لأبناء اليوم، لكنه كان جزءاً مما صنع الجيل الذي سبقهم قبل أن يغرق العالم في الكارثة الفكرية التي يعيش فيها، الكارثة التي لئن كانت لا تزال محدودة التأثير في أوروبا، ها هي ذي تأتي في "الغرب" كما في "الشرق" بحكام من أمثال ترمب وبوتين وأوربان واللائحة تطول كي لا نلتفت إلى عالمنا العربي لنرصد أي مستنقع يتمرغ فيه الآن. ومع ذلك لا بد لنا من أن نحاول بين الوقت والآخر أن نستثير بعض "ذكريات" من ماضٍ لا يزال في حقيقته قريباً. ولو لطمأنة أنفسنا بأن قسطاً من إنسانية وفكر إنساني لا يزال في المقدور استعادته ولو على الورق. وفي هذا الإطار لن يكون من المغالاة القول إن في إمكان الفكر أن يقول كلمته بعد في عالم يريد أهله أن يشغلوا كل شيء فيه إلا الفكر. ولنتوقف الآن، طالما أننا افتتحنا هذا الكلام بذكر ريمون آرون، عند هذا المفكر الفرنسي الذي يبدو منسياً تماماً في السجالات، والذي لا بد من الاعتراف أخيراً بأنه كان على حق أكثر مما كانه سارتر ولا سيما بالنسبة إلى سجالاتهما حول الديمقراطية والتوتاليتارية. ولعل أول ما سيخطر في بالنا هنا هو أن آرون إنما مهد بكتابه المعنون تحديداً "الديمقراطية والتوتاليتارية" لعودة حنة آرندت، المفكرة الأميركية من أصل ألماني، إلى واجهة الأحداث الفكرية بعد مكوثها الطويل في مهب النسيان. عادت ليعترف بها بوصفها من أعمق الذين فكروا بالتوتاليتارية والديمقراطية معاً منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، بل ليبدو آرون الذي اشتغل على الموضوع نفسه فكانت له المكانة الفضلى فيه، وكأنه مجرد مكمل لعملها ومفسر له.
سارتر (الثاني من الشمال) وإلى شماله وآرون (غيتي)ركائز التوتاليتارية الخمس
ينطلق ريمون آرون في "الديمقراطية والتوتاليتارية" إذاً من نظرة إلى أولاهما استقاها من حنة آرندت، ولا سيما من كتابها المرجعي "جذور التوتاليتارية" الذي كان ولا يزال أكثر وأكثر، واحداً من أفضل نصوص القرن العشرين عن "التوتاليتارية" (أو الحكم الشمولي الذي طبع في القرن العشرين أنظمة مثل ألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي الستاليني وأشباههما). ومنذ مدخل كتابه، يعطي آرون تعريفاً عملياً للتوتاليتارية مستنداً إلى أعمال آرندت، يتألف من خمس سمات هي أولاً، أن الظاهرة التوتاليتارية تسود في كل نظام يعطي حزباً ما، احتكار النشاط السياسي في البلد. ثانياً، يكون الحزب الواحد هذا، مسيراً ومسلحاً بأيديولوجية يضع بين يديها سلطة مطلقة تجعلها بالتالي، الحقيقة الرسمية الوحيدة للدولة المعنية. وثالثاً أن الدولة، كي تنشر هذه الحقيقة الرسمية، تحتفظ لنفسها باحتكار حصري مزدوج: احتكار وسائل التسلط (القوة) من ناحية، واحتكار أدوات الإقناع من ناحية ثانية... وبهذا يكون مجموع أدوات الاتصال والتواصل، والراديو والتلفزيون والصحافة تحت إدارة وسيطرة الدولة ومن يمثلونها. رابعاً، في هذا الإطار تكون الغالبية العظمى من النشاطات الاقتصادية والمهنية خاضعة للدولة، وتصبح، في شكل أو في آخر، جزءاً منها. وبما أن الدولة هنا، تكون غير قابلة لأن تنفصل عن أيديولوجيتها، يكون من المنطقي أن تتلون غالبية النشاطات الاقتصادية والمهنية بلون الحقيقة الرسمية. وخامساً وأخيراً: هنا بما أن كل شيء يصبح جزءاً من نشاط الدولة خاضعاً لها، وبما أن كل نشاط لهذه الدولة يكون خاضعاً للأيديولوجيا، يصبح من المنطقي أن كل خطأ يرتكب في مجال النشاط الاقتصادي أو المهني، يصبح في الوقت نفسه خطأً أيديولوجياً. ومن هنا، بالاستناد إلى هذا كله، يسود نوع من التسييس، أو التحويل إلى الصعيد الأيديولوجي لكل أخطاء ممكنة يرتكبها الأفراد، ما يستتبع، بالناتج، إرهاباً يكون في الوقت نفسه بوليسياً وأيديولوجياً يمارس ضد هؤلاء الأفراد. وهنا يختم آرون قائلاً إن "هذه الظاهرة تكتمل تماماً، حين يحدث لكل هذه العناصر أن تجتمع وتتكامل".
اقرأ المزيديحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كل التوتاليتاريات سواء
طبعاً لا يمكن القول هنا إن هذا التحديد والتعريف للظاهرة التوتاليتارية، كان جديداً في ذلك الحين، لكن أهميته في كتاب ريمون آرون كانت تكمن في أن الكتاب تمكن من توظيف هذا التوصيف، في زمن كان مثقفون فرنسيون وأوروبيون كثر، يفصلون -بالنسبة إلى الاتحاد السوفياتي- بين ما يسمونه ظاهرة ستالين، والمنظومة الحزبية الحاكمة. من هنا جاء آرون، وبعد أن كان قد أصدر كتابيه المهمين "18 درساً في المجتمع الصناعي" و"صراع الطبقات"، ليوضح أن الظاهرة لا يمكن أن تعزى إلى فرد واحد مهما كانت ديكتاتوريته وعنفه ودمويته، مفسراً، ضمنياً، كيف أن التخلص من ستالين (جسدياً بالموت، ثم سياسياً عبر تقرير خروتشيف إلى المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي - سنة 1956) لم يبدل الأمور كثيراً في وطن الاشتراكية الأكبر، بالتالي فإن آرون رسم هنا صورة المنظومة التوتاليتارية، ليقارنها مع الديمقراطية الدستورية التعددية، واصلاً إلى ربط كل نظام ببنيته التحتية الاجتماعية، مستخلصاً دروساً ربما كانت "غريبة" و"طارئة" في ذلك الحين، لكن العقود التالية أثبتت صحتها، خصوصاً أن آرون أقام صرح درسه كله، في مجال السوسيولوجيا السياسية بخاصة، على ازدواجية تناحرية أساسية تقوم على تعارض المنافسة الحرة/الاحتكار، الدستور/الثورة، التعددية/الإطلاق البيروقراطي، أي، في اختصار تعارض دولة الحزب ودولة المواطن. وهو قريب إلى حد لافت مما فكرته آرندت في كتابها المذكور.ماركسي أكثر من الماركسيين
ولد ريمون آرون عام 1905، ليرحل في عام 1983 في باريس، وهو اعتبر فيلسوفاً وعالم اجتماع، وعالم سياسة. درس في الجامعات الكبرى، كما كتب تعليقات سياسية في كبريات صحف زمنه ولا سيما في "لو فيغارو" و"الإكسبرس"، وعرف بصداقته مع الجنرال ديغول، على الرغم من انتقاده له في مناسبات عدة ولا سيما حين ناصر ديغول المنطق العربي على الضد من المنطق الإسرائيلي بعد حرب الأيام الستة. اليوم، إذ يبدو هذا بعيداً حتى وإن كان الاتجاه الفكري العام يواصل تعظيم سارتر بشخصه أكثر من تعظيمه بما كتبه من مواقف سياسية، فإن هذا الاتجاه ينحو، وإن بخجل، إلى العودة إلى دراسة آرون. الآن وقد مات الاثنان وبقيت مؤلفاتهما، والآن وقد عاد خلط الأوراق الأيديولوجية من جديد، ليكتشف الناس أن الذين وقفوا مع ستالين، ولو لردح يسير من حياتهم لم يكونوا أقل خطراً على الإنسانية من الذين وقفوا إلى جانب هتلر.
والحقيقة أن ريمون آرون سهل هذا كله منذ نشر آخر حياته، نصوص مذكراته التي لعل أهم ما فيها أن الرجل وعلى العكس من رفيقه سارتر، أقر بأخطاء كثيرة ارتكبها في حياته، وهو الذي حتى وإن كان معادياً للماركسية وتطبيقها الشيوعي الستاليني - كتب ذات مرة واحداً من أفضل النصوص التحليلية الشارحة لماركس، معتبراً إياه واحداً من كبار علماء الاجتماع على مدى تاريخ الفكر البشري، ولا سيما انطلاقاً من كتابه "رأس المال". أما المحطات التي لا تزال تبدو حتى اليوم صالحة لقراءة ريمون آرون في هذا الشكل فمتعددة وتحمل عناوين منها "علم الاجتماع الألماني المعاصر" و"مدخل إلى فلسفة التاريخ"، وخصوصاً "أفيون المثقفين" الذي سدد فيه إلى سارتر و"ماركسية" هذا الأخير، طعنات لا تنسى، و"أبعاد الوعي التاريخي"، وطبعاً "18 درساً حول المجتمع الصناعي".
subtitle: خصم سارتر اللدود كان على حق لكن المثقفين الفرنسيين تجاهلوا ذلك متعمدينإبراهيم العريسpublication date: السبت, يونيو 4, 2022 - 13:002024-11-05 11:35:38