<p class="rteright">متطوعون من بيلاروسيا يمارسون مناورات بالذخيرة الحية فيما تقع وارسو، عاصمة بولندا، ضمن مرمى نيرانهم، بتاريخ 20 مايو 2022. يندرج هؤلاء المتطوعون ضمن من استجابوا لدعوة الرئيس فولوديمير زيلينسكي للتعبئة ضد روسيا (أسوشيتدبرس)</p>
فورين آفيرزآراءTags: سيادة الدولوحدة الأراضيعصبة الأممدول مستقلةقوى عظمىفورين آفيرزأعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ فترة طويلة أن أوكرانيا لم تكن موجودة قط كدولة مستقلة. وأورد في وقت مبكر من عام 2008 إن تلك الجمهورية السوفياتية السابقة "ليست دولة حتى". وفي خطاب ألقاه في 21 فبراير (شباط) من العام الحالي، أوضح أن "أوكرانيا الحديثة أنشأتها روسيا بشكل كامل وشامل". بعد أيام، أصدر أمراً للقوات الروسية بغزو أوكرانيا. ومع تدفق الدبابات الروسية عبر الحدود الأوكرانية، بدا أن بوتين يتصرف وفق هدف شرير وضعه منذ وقت طويل، يتمثّل بمحو أوكرانيا من خريطة العالم.
في الواقع، إنّ ما جعل الغزو الروسي صادماً للغاية هو طبيعته التي عفا عليها الزمن. لعقود من الزمان، بدا أن هذا النوع من الغزو الإقليمي أصبح شيئاً من الماضي. وقد مر أكثر من 30 عاماً منذ أن حاولت دولة ما غزو دولة أخرى معترف بها دولياً بشكل صريح (حينما غزا العراق الكويت في عام 1990). والجدير بالذكر أنّ هذا التقييد شكّل أساس النظام الدولي، إذ إنّ الحدود كانت مقدسة إلى حد كبير.
واستطراداً، لم يكن الامتثال لمعايير سيادة الدولة، بما في ذلك فكرة أن الدولة تتحكم في ما يحدث في أراضيها، مثالياً على الإطلاق. بيد أنّ الدول حاولت بشكل عام مراعاة قدسية الحدود أو على الأقل الاستمرار في التظاهر بأنها تفعل ذلك. بالتالي، استطاعت البلدان أن تطمئن إلى أنّه من بين جميع التهديدات التي تواجهها، ليس من المرجح أن تواجه غزواً يهدف إلى إعادة ترسيم حدودها. ونظراً لأن السبب الرئيس للحرب يرتبط إلى حد كبير بالتاريخ، أصبح هذا النوع الخاص من الصراع أقل شيوعاً.
حاضراً، مع الغزو الروسي، يخضع مبدأ مناهضة غزو الأراضي [مبدأ معارضة الغزو الإقليمي] إلى الاختبار بأكثر الطرق تهديداً وحيوية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. في الحقيقة، تذكرنا الحرب في أوكرانيا بحقبة سابقة أكثر عنفاً. وإذا سمح المجتمع الدولي لروسيا بإدماج أوكرانيا، فقد تستخدم الدول القوة بشكل متكرر لاختراق الحدود، وقد تندلع الحروب، وتعود الإمبراطوريات السابقة مجدداً، وكذلك قد يُدفع عدد متزايد من الدول إلى حافة الزوال.
ومهما جاء هجوم روسيا مربكاً، فلا يزال بإمكان بقية العالم حماية المبدأ الذي تحدته موسكو. في ذلك السياق، يمكن للمجتمع الدولي استخدام العقوبات والمحاكم الدولية لفرض تكاليف على روسيا بسبب عدوانها السافر وغير القانوني. كذلك يمكنه الضغط من أجل إصلاحات في الأمم المتحدة حتى لا يتمكن أعضاء مجلس الأمن، بمن فيهم روسيا، من استخدام حق النقض ضد الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية، بالتالي إعاقة قدرة تلك المؤسسة على تحقيق العدالة. بيد أنّ استجابة من هذا النوع ستتطلب تعاوناً وتضحيات، لكنها تستحق الجهد المبذول، إذ إنّ أحد المبادئ الأساسية للقانون الدولي موجود على المحك، وهو وحدة وسلامة أراضي الدول.
حرس الحدود
"موت الدولة"، هكذا سمّيتُ تلك الظاهرة، وتعني فقدان دولة ما رسمياً سيطرتها على السياسة الخارجية لمصلحة دولة أخرى. بعبارة أخرى، عندما يعترف بلد ما بأنه لم يعد قادراً على التصرف بشكل مستقل على المسرح العالمي، فإنه يتوقف فعلياً عن كونه دولة لها سلطتها الخاصة. في بداية عصر الدولة الحديثة، ساد سبب واحد لوفاة الدولة، متمثلاً في حدوث صدمة بضربة فائقة القوة. بين عامي 1816 و1945، اختفى من خريطة العالم ما معدّله دولة واحدة كل ثلاث سنوات، وهذه حقيقة مثيرة للقلق نظراً لأنّ عدد الدول الذي كان موجوداً آنذاك يبلغ حوالى ثلث العدد الموجود حاضراً. وفي تلك الفترة، عانى ربع الدول تقريباً من الموت العنيف في وقت أو آخر. إذ نهبت جيوش الأعداء عواصمها، وضُمَّتْ أراضيها، ولم يعد بإمكانها العمل بشكل مستقل على المسرح العالمي.
وفي ذلك الإطار، كانت البلدان الواقعة بين جهات متنافسة عرضة بشكل خاص للاستيلاء عليها. من عام 1772 إلى 1795، جرى تقسيم بولندا من قبل النمسا وبروسيا وروسيا. واختفت بولندا تماماً من خريطة أوروبا لأكثر من قرن. وعلى نحو مماثل، عانت باراغواي من المصير نفسه في عام 1870 عندما خسرت حرباً ضد الأرجنتين والبرازيل. وفي أوائل القرن العشرين، ضمّت اليابان كوريا بعد سلسلة حروب في شبه الجزيرة الكورية مع الصين وروسيا.
وإلى جانب الموقع السيء، شكّل الافتقار إلى العلاقات الدبلوماسية القوية مع القوى الاستعمارية نذير خطر آخر للدول الضعيفة، إذ لم تكن العلاقات التجارية كافية. في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كانت الدول الأفريقية والآسيوية التي أبرمت صفقات تجارية مع قوى إمبريالية كفرنسا والمملكة المتحدة، أكثر عرضة للزوال من دول أميركا اللاتينية والشرق الأوسط، لأن علاقات تلك الأخيرة مع القوى الإمبريالية كانت أمتن وأكثر رسمية، كما أنّها استضافت القنصليات والسفارات التابعة لتلك القوى الاستعمارية نفسها. بعبارة أخرى، برزت تراتبية في التمييز تحدّد أي الدول يُنظر إليها على أنها فتوحات مشروعة، وأيها ليست كذلك. ومثلاً، وقّعت المملكة المتحدة معاهدات مع دول الهند ما قبل الاستعمار من السند إلى ناغبور إلى البنجاب، واعتبر عدد من القادة الهنود أن تلك المعاهدات تمثّل اعترافاً بدولهم. بيد أنّ البريطانيين لم يتخذوا الخطوة التالية المتمثلة في إنشاء بعثات دبلوماسية في تلك الدول، وذلك إهمال اعتُبِرَ غالباً بمثابة مقدمة للغزو.
اقرأ المزيديحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ببطء ولكن بثبات، بدأ بعض القادة يرفضون ممارسة الغزو. في أوائل القرن العشرين، ظهر الرئيس الأميركي وودرو ويلسون كمؤيد لسلامة أراضي الدول. والجدير بالذكر أنّ النقطة الأخيرة من بين النقاط الـ14 التي كتبها ويلسون، والتي كُشِفَ عنها مع اقتراب انتهاء الحرب العالمية الأولى، أشارت على وجه التحديد إلى حماية الدول التي تنتمي إلى "عصبة الأمم" [هيئة دولية أُنشئت بعد الحرب العالمية الأولى بهدف حماية السلام العالمي والنظام الدولي، وتشبه الأمم المتحدة التي حلَّتْ محلَّها لاحقاً].
وقد اعتقد ويلسون أن "عصبة الأمم" يمكن أن تقدم "ضمانات متبادلة للاستقلال السياسي وسلامة الأراضي للدول الكبرى والصغرى على حد سواء". وبدا أنّ التزام ويلسون بتقرير المصير قد اقتصر على الدول الأوروبية، ففضّل استقلال البولنديين، لكنه لم يستجب لنداءات الدعم التي أطلقها المصريون والهنود. علاوة على ذلك، أصبح دفاعه عن سلامة الأراضي ووحدتها أسهل، إذ إنّه بحلول الوقت الذي أصبح فيه رئيساً، كانت الولايات المتحدة قد أكملت غزواتها الإقليمية، بما في ذلك زحفها غرباً والاستيلاء على أراضي الأميركيين الأصليين؛ بالتالي، لم تكن لديها طموحات واضحة للحصول على أراض إضافية. وعلى الرغم من ذلك، ساعد ويلسون في ترسيخ مبدأ مناهضة غزو أراضي الدول.
استمرّ خلفاء ويلسون في اتّباع تقليد معارضة الاستيلاء على أراضي الدول. ومثلاً، في عام 1935، أعرب الرئيس فرانكلين روزفلت عن معارضته الشديدة لاستيلاء إيطاليا على إثيوبيا، وكان على استعداد حتى لتأجيل التحالف مع الاتحاد السوفياتي في بداية الحرب العالمية الثانية [تحالف الطرفان آنذاك ضد هتلر وحلفائه] لأن موسكو طالبت بالاعتراف بشرعية إخضاع دول البلطيق لنفوذها. بيد أنّ التزام روزفلت بالقاعدة المتّبعة، على غرار التزام ويلسون، لم يكن مطلقاً. في الواقع، بدا روزفلت مستعداً، قبل الحرب العالمية الثانية، مثلاً للاعتراف بغزو ألمانيا للنمسا إذا كان ذلك سيدرأ الحرب عن أوروبا.
واستكمالاً، بشرت نهاية الحرب العالمية الثانية بعصر جديد. في العقود التالية، لم تنقرض ممارسة غزو الأراضي تماماً. تظهر أمثلة على ذلك في استيلاء شمال فيتنام على جنوبها عام 1975؛ واحتلال إسرائيل أجزاء من جيرانها؛ ومحاولة الأرجنتين السيطرة على جزر فوكلاند؛ وغزو العراق للكويت عام 1990. ولكن بشكل عام، تدخلت البلدان في دول أخرى من دون محاولة إعادة ترسيم حدودها. وبشكل خاص، لم يكن مرجحاً أن تبتلع الدول الأخرى، بلداً معترف به دولياً دفعة واحدة. حينما غزا الاتحاد السوفياتي المجر في عام 1956، تمثل الهدف في منع الدولة المجرية الواقعة في أوروبا الشرقية من مغادرة حلف وارسو. ثم أنشأ السوفيات نظاماً جديداً أكثر تساهلاً في بودابست، لكنهم لم يدّعوا امتلاك الأراضي المجرية. وعلى نحو مماثل، حينما غزت فيتنام كمبوديا في عام 1978، شكّلت حكومة صوَريّة لكنها لم تطالب بأراض خارج مجموعة الجزر المتنازع عليها في خليج تايلاند.
وفي سياق متصل، توصف بعض الاحتلالات، على غرار تلك التي أعقبت غزو الولايات المتحدة لأفغانستان والعراق، بأنها موت عنيف للدولة. لكن الولايات المتحدة لم تكن تمتلك مخططات بشأن أراضي تلك الدول. في الواقع، سعت إلى إسقاط الأنظمة لكنها حافظت على سلامة الحدود. والجدير بالذكر أن غياب الأهداف المتعلّقة بالأراضي لا يجعل نوعاً من انتهاك السيادة أفضل أو أسوأ من نوع آخر، لكنه يمثل فارقاً مهماً. إذاً، بقيت الخرائط بشكل عام كما هي.
قد تؤدي الحرب في أوكرانيا إلى استخدام مزيد من الدول القوةَ من أجل الهيمنة على بلدان أخرى
مبدأ يترسّخ
لماذا التراجع المفاجئ في الغزو الإقليمي بعد الحرب العالمية الثانية؟ يمكن العثور على الجواب في وجود قوة جبارة ضمن العلاقات الدولية، تتمثّل في المبادئ. وفق التعريف الذي أعطاه عالما السياسة مارثا فينمور وكاثرين سيكينك لذلك مصطلح، فإن المبدأ الدولي هو "معيار السلوك المناسب الذي تتّبعه جهات فاعلة تمتلك هوية معينة"، أي الدول في هذه الحالة. في الحقيقة، أدرك القادة الذين طوروا مبدأ مناهضة الغزو الإقليمي أن معظم النزاعات، بما في ذلك الحرب العالمية الثانية، دارت حول الأراضي. لذا، شكّل وضع قاعدة ضد استيلاء دولة ما على أراضي دولة أخرى بالقوة جزءاً من مشروع أوسع يرمي إلى تعزيز السلام. ومن خلال المساعدة في صون ذلك المبدأ في ميثاق الأمم المتحدة، بدت الولايات المتحدة مصممة على أن ذلك المبدأ سوف يبقى ويستمر. بعد أن خرجت الولايات المتحدة من الحرب أقوى بكثير من حلفائها، اعتبرت أنّ فرض مبدأ مناهضة الغزو الإقليمي يشكّل عنصراً أساسياً في الحفاظ على الاستقرار العالمي. وعلى نحو مشابه، قدمت الدول المستقلة حديثاً التزامات مماثلة في الوثائق التأسيسية الخاصة بالمنظمات الإقليمية، على غرار جامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية. بناءً على المحاولات السابقة في ترسيخ مفهوم وحدة الأراضي ضمن معاهدات كميثاق "عصبة الأمم"، في عام 1919، و"ميثاق كيلوغ برييان"، في عام 1928، ظهر مبدأ حسن النية.
واستطراداً، تلتزم الدول والقادة بتلك المبادئ لأسباب مختلفة. في حين ارتكزت بعض المبادئ كتلك المناهضة للإبادة الجماعية، على مخاوف إنسانية، استند مبدأ مناهضة الغزو إلى جذور أكثر استراتيجية ومرتكزة على المصلحة الذاتية. هناك دول تحترم تلك القاعدة لأنها لا تملك طموحات الاستحواذ على الأراضي، بينما تتبناها دول أخرى بعمق لدرجة أن انتهاكها يصبح أمراً غير معقول. في المقابل، بعض الدول، حتى القوية منها، تطيع تلك المبادئ، مدركةً أن النزاعات على الأراضي شكّلت سبباً رئيساً للحروب، وترى أن استقرار النظام الدولي في مصلحتها. وفي مقلب مغاير، ثمة دول أخرى تتبع المبادئ خوفاً من العقاب في حال انتهاكها.
على الرغم من جميع المزايا التي يتمتع بها مبدأ مناهضة غزو الأراضي، فإنه يؤدي إلى عواقب غير مقصودة. تشمل قائمة تلك العواقب تَصَلُّبْ الحدود بين الدول بطرقٍ تخلق ظروفاً جاهزة لفشل الدولة وانهيارها. وفق ما أوضح الخبير السياسي بواز أتزيلي، فإن "ثبات الحدود" حرّر قادة الدول الضعيفة من الاضطرار إلى توجيه انتباههم إلى حماية حدودهم ضد العدوان الخارجي. في ذلك الإطار، تمكّن دكتاتور زائير، موبوتو سيسي سيكو، من تركيز جهوده على استخراج الموارد من أجل تحقيق مكاسب شخصية جزئياً لأنه لم يكن بحاجة إلى جيش قوي للدفاع عن حدود بلاده. ووفق ما بيّنته عالمة الاجتماع آن هيروناكا، أسهم مبدأ مناهضة غزو الأراضي أيضاً في حدوث "حروب لا تنتهي". وعوضاً عن تسوية الخلافات حول السيطرة السياسية من خلال محاولة الاستيلاء على الأراضي، تدخّل القادة الانتهازيون في الحروب الأهلية داخل الدول الضعيفة من أجل إطالة أمد الصراع وإضعاف الحكومات غير المستقرة، على غرار ما فعلته مثلاً دولة جنوب أفريقيا في أنغولا في ثمانينيات القرن الماضي.
ليس من قبيل الصدفة أنّ مبدأ مناهضة غزو الأراضي قد ظهر بعد الحرب العالمية الثانية. إذ تجدر الإشارة إلى أنّ أهوال ذاك الصراع، إلى جانب بزوغ فجر العصر النووي، قد حفزت القوى العظمى على تجنب الحروب في المستقبل. وبطريقة موازية، سمح عصر القطبية الثنائية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بتغيير الأنظمة مع الحفاظ على الحدود الدولية. وقللت العولمة أيضاً من الفوائد الاقتصادية لغزو الأراضي، إذ إنّ زيادة التجارة تعني أن البلدان يمكنها الوصول إلى موارد الدول الأخرى من دون اللجوء إلى القوة.
لم تكن الحدود آمنة فحسب؛ بل أصبحت السيادة نفسها سلعة ذات قيمة متزايدة. ويرجع ذلك جزئياً إلى أن قادة ما بعد الحرب في البلدان المستقلة حديثاً أمكنهم أن يثقوا في أن مبدأ مناهضة غزو الأراضي سيستمر، وأن دولهم الحديثة الولادة ستكون آمنة. بيد أنّ مواطني تلك الدول الجديدة التي يقع عدد منها في مجال ما بعد الاتحاد السوفياتي، هم بالتحديد الأكثر قلقاً اليوم بشأن مستقبل بلدانهم.
تصنيف المخاطر
يسلّط الغزو الروسي لأوكرانيا الضوء على هشاشة مبدأ مناهضة غزو الأراضي. ويتمثّل النبأ السار في أن الغضب جاء سريعاً وواسع النطاق، مع قلق مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة من أن هجوم بوتين يمكنه تقويض استقرار الحدود على الصعيد العالمي. وقد تحدّث بحماسة حتى أولئك الذين لم يشاركوا في رسم الحدود الوطنية الحالية. في ذلك السياق، ذكر مارتن كيماني، سفير كينيا لدى الأمم المتحدة، في اجتماع مجلس الأمن في 22 فبراير (شباط) 2022، "اتفقنا على أننا سوف نقبل بالحدود التي ورثناها". وتابع، "لقد اخترنا اتباع مبادئ منظمة الوحدة الأفريقية وميثاق الأمم المتحدة، ليس لأن حدودنا ترضينا، بل لأننا أردنا شيئاً أعظم يجري تشكيله في سلام". وبطريقة موازية، أدان زعماء دول من ألبانيا إلى الأرجنتين الغزو الروسي لأسباب مماثلة.
وبصورة جزئية، يعتمد مصير مبدأ مناهضة غزو الأراضي على مدى انتهاك بوتين لها في أوكرانيا. إذا انتهى المطاف ببوتين باستبدال إدارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وإنشاء نظام صُوَري في أوكرانيا، فسيكون منخرطاً في تغيير صارخ للنظام وسيوجه ضربة خطيرة للشعب الأوكراني. لكنه، في تلك الحال، لن يكون قد تحدّى مبدأ مناهضة غزو الأراضي في حد ذاته. ولن تكون البلاد تحت السيطرة الروسية المباشرة، بل غير المباشرة.
وعلى نحو مشابه، إذا حاول بوتين ضمّ شبه جزيرة القرم ودونيتسك ولوهانسك، المناطق التي لطالما ادّعى أنها أراضٍ روسية، ووافق بقية العالم، فسوف يسهم ذلك في إضعاف المبدأ الذي يحمي وحدة أراضي الدول، ولكن لن يقضي عليه تماماً، لأن معظم أوكرانيا سيبقى سليماً. وعلى الرغم من ذلك، قد يؤدي قبول انتهاك محدود لذلك المبدأ إلى وقوع ضرر على المدى الطويل أكبر من ذاك الذي يسببه رفض انتهاك جسيم لها. في النهاية، من المرجح أنّ رد الغرب الضعيف نسبياً على ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014 جعل بوتين يتمادى.
ليس من قبيل الصدفة تكريس مبدأ مناهضة الغزو بعد الحرب العالمية الثانية
وهناك سبب وراء الخوف من أن طموحات بوتين تتجاوز تلك الأهداف. ووفق ما توحي ملاحظاته التي تشكك في شرعية أوكرانيا كدولة مستقلة، يبدو بوتين مهتماً بأكثر من مجرد تسليم صديق له مسؤولية إدارة جمهورية سوفياتية سابقة أو اقتطاع أجزاء من البلاد، إذ ربما يفكر في إعادة رسم خريطة أوروبا ليعيد ذكرى الإمبراطورية الروسية. إذا استولت روسيا على أوكرانيا بأكملها، سيكون بوتين قد غرس وتداً في قلب مبدأ مناهضة غزو الأراضي.
تتغذى المبادئ من طريق التطبيق
إذا ذهب بوتين إلى هذا الحد، فإن مصير ذلك المبدأ سيعتمد إلى حد كبير على رد فعل بقية العالم. إذ تتغذى المبادئ من تطبيقها. في عام 2013، انتهك الرئيس السوري بشار الأسد بوضوح قاعدة حظر استخدام الأسلحة الكيماوية (والقانون الدولي) حينما أطلق صواريخ مليئة بغاز الـ"سارين" على ضواحي دمشق. على الرغم من أن الرئيس الأميركي باراك أوباما قد أعلن أن استخدام الأسلحة الكيماوية يشكّل خطاً أحمر، إلا أن الرد على ذاك الانتهاك جاء فاتراً لدرجة تجعلك تعذر من يتساءل عما إذا كانت المحرمات ضد استخدام الأسلحة الكيماوية لا تزال موجودة.
لحسن الحظ، يشير رد فعل معظم دول العالم إزاء الغزو الروسي إلى أن الدول متحدة إلى حد كبير في تصميمها على حماية مبدأ مناهضة غزو الأراضي. والجدير بالذكر أنّ العقوبات غير المسبوقة على روسيا، إلى جانب التبرعات بالمساعدات الإنسانية والأسلحة لأوكرانيا، تمارس ضغوطاً على بوتين بينما تقدم إغاثة (محدودة في الحقيقة) إلى زيلينسكي. إذا كانت تلك العزيمة الدولية ستنحسر، فالدول المجاورة لأوكرانيا، على غرار مولدوفا وبولندا ورومانيا، ستصبح محقة في التوتر بشأن سيادتها، علماً أنّها في حالة من التوتر أصلاً. وتجدر الإشارة إلى أن المجتمع الدولي لم يتكاتف من أجل صد التوغل الروسي بالطريقة التي عمل فيها التحالف العالمي بقيادة الولايات المتحدة على صدّ محاولة العراق ضم الكويت. في الواقع، لم تُرجع تلك الخطوة استقلال الكويت فحسب، بل عززت أيضاً مبدأ مناهضة الغزو. (بالطبع تُعتبر روسيا أقوى من العراق بكثير وتمتلك أسلحة نووية جاهزة للتشغيل).
في الوقت نفسه، يترافق تطبيق مبدأ مناهضة غزو الأراضي مع تنازلات يجب أن يدركها الجميع بوضوح. من المحتمل ألا تستحق حماية السيادة الأوكرانية حرباً عالمية ثالثة، على الأخص حرباً يمكن أن تصبح نووية. كذلك ينبغي ألا يدفع العالم أغلى ثمن لمجرد دعم مبدأ مناهضة غزو الأراضي. في المقابل، أنّ التكاليف الدموية التي تأتي مع ذلك الخيار [حماية مبدأ مناهضة غزو الأراضي] لا يمكن تجاهلها. وفي ذلك السياق، يسير الغرب حالياً على حبل مشدود، إذ يسعى للرد على الغزو الروسي بقوة ولكن من دون تصعيد النزاع.
ومن أجل الحفاظ على مبدأ مناهضة غزو الأراضي، يجب على المجتمع الدولي مواصلة الضغط على روسيا، حتى لو اقتصر هدف بوتين على ضم شبه جزيرة القرم ودونيتسك ولوهانسك. ومثلاً، ينبغي على التحالف الغربي ألا يرفع العقوبات المفروضة على روسيا بالكامل إلا حينما يعترف بوتين بحدود أوكرانيا في زمن ما قبل عام 2014. إضافة إلى ذلك، يجب على القضاة الدوليين أن يأخذوا قضايا أوكرانيا المختلفة ضد روسيا على محمل الجد، ليس في سياق هذا النزاع فحسب، بل مع التركيز أيضاً على أي اجتهادات قد تطرحها قراراتهم. على نحو مماثل، يجدر الانتباه إلى المسار الذي ستؤول إليه الاتهامات بأن روسيا ارتكبت جريمة العدوان. ومرد ذلك أنّ حقيقة أن روسيا، بصفتها عضواً دائماً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يمكنها استخدام الفيتو ضد إحالة جريمة العدوان إلى المحكمة الجنائية الدولية، ما يكشف ضعفاً مقلقاً في مبدأ مناهضة غزو الأراضي. ومن الصعب الحفاظ على المبادئ حينما تكون القوى العظمى عازمة على كسرها.
أحد المحتجين يلوح بالعلم الروسي ضمن تظاهرة في صوفيا أمام البرلمان البلغاري، ونادت بتأييد روسيا. بات شائعاً سماع "الروس هم أخوتنا السلافين" (أ ف ب)المبادئ لا تستمر دوماً إلى الأبد
إذا فشل المجتمع الدولي في تنفيذ مبدأ مناهضة غزو الأراضي، فإن الدول المتاخمة للقوى العظمى ستواجه الخطر الأكبر في الزوال. وفي ذلك الإطار، من بين الجوانب الأكثر إثارة للقلق في العودة إلى عالم واجهت فيه الدولة موتاً عنيفاً، هنالك آثار الغزو على المدنيين. في الواقع، كثيراً ما ينخرط دعاة التوسع والضم في استهداف عشوائي، على غرار ما يحدث اليوم في مدينتي "خاركيف" و"ماريوبول" الأوكرانيتين، من أجل إخضاع المناطق، أو حتى إخلائها من السكان. وبعبارة أخرى، فإن زوال مبدأ مناهضة غزو الأراضي قد يشهد زيادة في نشوب الحروب، وكذلك تصاعد وحشيتها.
حتى لو لم يحتشد المجتمع الدولي لكي يساند ذلك المبدأ في وجه محاولة روسيا إعادة حدود إمبراطوريتها السابقة، لن يضيع التفاؤل من أجل أوكرانيا. في الحقيقة، منذ عام 1816، أُعيد إحياء حوالى نصف الدول التي ماتت بشكل عنيف. ومن المؤشرات المهمة على العودة إلى الحياة هي المقاومة القومية في وجه التعرض للابتلاع [الدمج بالقوة]. قد يكون من الصعب على الغزاة التنبؤ بمدى المقاومة. ومن المؤكد أن توقعات بوتين جاءت بعيدة كل البعد من الواقع. وبشكل قوي، تشير المقاومة الأوكرانية الواسعة الانتشار والمتطورة إلى أن روسيا ستجد أنه من شبه المستحيل السيطرة على أوكرانيا. عبر التاريخ، لم ينجح في نهاية المطاف إلا عدد قليل من الاحتلالات في تحقيق الأهداف السياسية الطويلة المدى.
إذا سُمِح للأوكرانيين بإحياء بلدهم، فالنتيجة النهائية ستكون جيدة لهم لكنها لا تشجع بشكل خاص مبدأ مناهضة غزو الأراضي. وبغية الحفاظ على المبادئ قوية، تجب معاقبة الانتهاكات. في الواقع، إنّ أوكرانيا التي أعيد إحياؤها قد تردع الغزاة المحتملين عن مهاجمة البلاد في المستقبل. لكن على الصعيد العالمي، قد يستخلص الغزاة الطموحون درساً واضحاً مفاده أنه من الممكن تنفيذ غزو إقليمي والإفلات من العقاب.
إعادة الالتزام بالخطوط الواضحة
قد يكون من المريح أكثر الاعتقاد بأن المبادئ بمجرد إنشائها تكون دائمة، لكن المبادئ لا تستمر دوماً إلى الأبد. فكر في عدد المبادئ التي اضمحلّت. لم يعد الناس يعمدون إلى تسوية النزاعات عن طريق المبارزة الشعائرية. بطريقة موازية، نادراً ما تصدر الحكومات إعلانات حرب رسمية. جاءت آخر مرة فعلت فيها الولايات المتحدة ذلك الأمر في عام 1942، على الرغم من أن البلاد خاضت عدداً من الحروب منذ ذلك الحين. كذلك، لطالما نُظِرَ إلى الاغتيال العلني لقادة الدول، الذي شكّل سمة معتادة من سمات السياسة الدولية في زمن [المفكر السياسي الإيطالي الشهير] نيقولا ميكافيلي، على أنه أمر بغيض بحلول القرن السابع عشر (على الرغم من استمرار الاغتيالات السرية). إذا دُفن الحظر المفروض على غزو الأراضي في مقبرة المبادئ والأعراف في نهاية المطاف، فسيعود التاريخ إلى الوراء، وسيرجع العالم إلى العصر الوحشي المرتكز على الموت العنيف للدولة. وفي المقابل، لا يعني ذلك أن المبادئ تبشّر بالسلام العالمي. في الواقع، لقد نشبت حروب كثيرة منذ عام 1945، لكن نوعاً معيناً من الحروب تراجع بالفعل، وهو الحروب بين الدول بسبب ادعاءات إقليمية لم يجرِ التوصل إلى حلها. إذا عاد هذا النمط من الصراع، فسوف يتحمل العواقب المدنيّون في جميع أنحاء العالم.
فلنأخذ في الاعتبار العشرات من النزاعات الإقليمية الجارية اليوم. أرمينيا وأذربيجان منخرطتان في صراع مجمّد بشأن ناغورنو قره باخ. في المقابل، اعترض السودان على حدوده مع إثيوبيا في الجنوب الشرقي وجنوب السودان. وفي بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، تختلف الصين وجيرانها، بما في ذلك اليابان والفيليبين وفيتنام، حول سيادة سلسلة من الجزر. وبطريقة موازية، يشكّل مصير تايوان مصدر قلق خاص. والجدير بالذكر أنّ حجج بوتين حول شرعية دولة أوكرانيا المستقلة تماثل ادعاء الصين بأن تايوان والصين هما بالفعل دولة واحدة. وإذا بدا فجأة أنه من المقبول الاستيلاء على الأراضي بالقوة، عندئذ قد يحاول قادة الدول التي لديها مطالب إقليمية لم يجرِ حلها منذ فترة طويلة، أن يهيمنوا على دول مستقلة.
إذاً، لقد ساعدت المبادئ والهياكل القانونية القائمة في وقف تصعيد النزاعات الإقليمية الأخيرة، ما يوفر مسارات غير عنيفة لإدارتها وحلها. ومثلاً، حلَّت محكمة العدل الدولية قضية بين السلفادور وهندوراس في عام 1986. بينما توصلت الأمم المتحدة ومنظمة الدول الأميركية إلى حل نزاع قصير بين الإكوادور وبيرو في عام 1998. وبعد عدة سنوات، حلت محكمة العدل الدولية نزاعاً إقليمياً عسكرياً طويل الأمد بين البحرين وقطر. بعد ذلك، استثمرت الدولتان في ما سيشكّل أطول جسر في العالم. وسمحت تلك الوساطة للدول بتسوية خلافاتها من دون إراقة دماء كثيرة.
في الختام، تدور الحرب الروسية في أوكرانيا حول ما هو أكثر بكثير من روسيا وأوكرانيا. وفي سياق متصل، إنّ السماح بتلاشي مبدأ مناهضة غزو الأراضي سيعني إزالة الغطاء عن النزاعات الإقليمية حول العالم، وجعل ملايين المدنيين أكثر عرضة للاستهداف العشوائي. في الوقت الحالي، جرى احتواء الآثار الفورية للحرب إلى حد كبير ضمن أوكرانيا وروسيا والدول التي تستقبل اللاجئين الأوكرانيين. ولكن في المستقبل، إذا انتهى الأمر بمبدأ مناهضة غزو الأراضي بأن يكون ضحية أخرى لهذه الحرب، فسيكون من الحكمة أن ترعى الدول حدودها بعناية.
* تانيشا م. فزال أستاذة في العلوم السياسية بجامعة مينيسوتا ومؤلفة كتاب "موت الدولة، سياسة وجغرافيا الغزو والاحتلال والضم".
فورين آفيرز
مايو (أيار)/ يونيو (حزيران) 2022
subtitle: لماذا يتوقف مستقبل النظام العالمي على أوكرانيا؟تانيشا م. فزالpublication date: الأحد, مايو 22, 2022 - 11:152024-11-05 22:34:32