<p class="rteright">مشهد من "إليزابيث ملكة إنجلترا" (موقع الأوبرا)</p>
تراث الإنسانثقافةTags: إليزابيث ملكة إنجلتراموسيقىجواكينو روسينيموسيقي إيطاليالأوبرا الأوروبيةجوفاني شميثكارلو فدريتشيعاش الموسيقي الإيطالي جواكينو روسيني وعمل في عدد لا بأس به من مدن أوروبية، هو الذي أنهى حياته وعمله في العاصمة الفرنسية، وكتب ما يعتبر أعماله الكبرى في مدن إيطالية عدة كما في باريس وفيينا ولندن، حيث اعتُبر في كل واحدة من هذه المدن سيداً من سادة الأوبرا الأوروبية ومبرزاً في كتابة الأوبرات التاريخية، التي طاولت حكايات تبدأ من الشرق الأوسط لتتحدث عن شخصيات وحكايات عرفت على مدى التاريخ. ومع ذلك، حتى وإن لم تكن أعماله الأساسية الكبرى قد كتبت وقدّمت للمرة الأولى في نابولي، المدينة التي أحبها أكثر من أية مدينة أخرى وتفاعلت مع موسيقاها موسيقاه الأكثر شعبية، فإن الأوبرات التسع التي لحنها وقدمت خاصة على خشبة "سان كارلو" في تلك المدينة الجنوبية، بقيت باعترافه دائماً، الأكثر قُرباً من فؤاده. وربما كان وراء ذلك أن الموسيقي حين ارتبط بها، للمرة الأولى خلال مساره المهني عند تلك المرحلة من حياته (عام 1815) أحس بأنه يجابه عالماً جديداً عليه يكنّ له شيئاً من عداء غير خفي باعتباره متطفلاً على مدينة لها تقاليدها الموسيقية والأوبرالية، ولا سيما أن اتفاقيته طاولت تقديم عدد من الأوبرات بشكل متتابع في صالة "سان كارلو"، التي كانت تعتبر حافظة التراث الموسيقي في مدينة كانت تعرف بكونها عاصمة الأوبرا في أوروبا...
في وجه التحدي
لكن روسيني قبِل التحدي بكل ثقة بالنفس لدرجة أنه سيقضي سنوات عدة تالية في المدينة، وغالباً في "سان كارلو" كتب وقدم خلالها تسع أوبرات إن لم تكن من أفضل أعماله فإنها كانت بالتأكيد فترة التجريب والإعداد المثلى للمراحل المقبلة من مساره. ومن المعروف أن الموسيقي الشاب أوصل التحدي إلى ذروته، منذ العمل الأول الذي قدمه في المدينة، فهو هناك وبدلاً من أن يقدم عملاً إيطالياً خالصاً، "حلاق إشبيلية"، كان قد أنجزه سلفاً ولسوف يقدمه في روما بعد ذلك بعام، أي في 1816 على خشبة "تياترو أرجنتينا" حيث نال نجاحاً كبيراً، ها هو يختار عملاً "إنجليزياً" سيصفه دائماً بأنه "دراما موسيقية" مستنكفاً عن اعتباره أوبرا لأسباب لم تتضح أبداً. ونعني بذلك "إليزابيث ملكة إنجلترا" التي كانت البداية التي اختارها لسنواته النابوليتانية تلك. مهما يكن هناك بين المؤرخين من يرون أنه كان في الأصل يريد تقديم "حلاق إشبيلية" كمفتتح لعمله في نابولي، لكنه تراجع إذ ردعه كون باييزيلو سبق أن قدم هناك، وهو المرتبط بالمدينة أكثر من ارتباطه، أوبراه الخاصة بالعنوان نفسه والمقتبسة عن بومارشيه. فقد أحس روسيني أنه لا يمكنه الغوص في التحدي إلى تلك الدرجة، ومن هنا سيؤجل تقديم "حلاقه" سنوات أخرى جاعلاً منه نوعاً ما، آخر أوبرا يقدمها في نابولي ضمن إطار اتفاقه مع المسؤولين في المدينة. ولا شك أنه كان موفقاً في ذلك الاختيار، إذ أن تلك الأوبرا كانت في الواقع خير خاتمة لمرحلة تأسيسية من مساره، منتقلاً إلى مرحلة تالية سوف تشهد تجوالاته الأوروبية وكتابته بعض أعظم أعماله التي خلدت موسيقاه.
جياكونو روسيني (1792 – 1886)
صنع في إيطاليا
وعلى الرغم من موضوعها الإنجليزي البحت، نعرف أن "إليزابيث ملكة إنجلترا"، هي صناعة إيطالية تماماً. فالنص الأوبرالي اقتبسه جوفاني شميث من مسرحية للكاتب المسرحي كارلو فدريتشي، الذي اقتبس بدوره مسرحيته من قصة لصوفيا لي بنتها على ما اعتبرته أحداثاً تاريخية حقيقية. وكذلك فإن الموسيقى التي ملأ بها روسيني هذا العمل أتت في معظمها مستقاة من مقطوعات موسيقية من تأليفه، كان قد أدمجها في العديد من أعماله السابقة ولاسيما المعروفة من تلك الأعمال. وهكذا على سبيل المثال أتت الافتتاحية متطابقة مع موسيقى كان كتبها لأوبراه السابقة "أوريليانو في تدمر"، وأعاد استخدام معظمها كجزء من تلك الافتتاحية التي كتبها لـ"حلاق إشبيليا"، وتعتبر واحدة من أشهر افتتاحياته. ونتيجة إعادة الاستخدام المتنوعة هذه، كتب باحث معاصر متخصص أن الموسيقي "إنما شاء، في إطلالته المبكرة تلك على الجمهور النابوليتاني، أن يجعله يتفاعل معه من خلال صفحات موسيقية يعرفها جيداً، ويمكنه بالتالي أن يتعرف من خلالها عليه فلا يعود متطفلاً، كما حاول خصومه أن يقولوا عنه حين وصل إلى ديارهم". وبصرف النظر عن هذا التفسير، لا بد من القول إن هذا الاستخدام كان أفضل من اللجوء إلى موسيقى إنجليزية الطابع للتعبير عن موضوع إنجليزي بحت. وهو نفس ما سيفعله روسيني لاحقاً، ولا سيما حين سيتعامل مع نصوص شكسبيرية بحتة كما فعل في موسيقته "عطيل" أو شكسبيرية بشكل غير مباشر في أعمال تاريخية كثيرة اشتغل عليها.
منعطف في مسار
المهم أن "إليزابيث ملكة الإنجليز" سجلت منعطفاً في المسيرة المبكرة لروسيني كمبدع في المجال الأوبرالي، حتى وإن كنا نعرف أن روسيني نفسه قد توقف عن كتابة الأوبرا تماماً خلال الأربعين سنة الأخيرة من حياته. فهو في الحقيقة وعلى الرغم من أنه لحّن 39 أوبرا، فإنه أنجز هذا الجانب المميز في مساره المهني كموسيقي خلال ما لا يزيد عن 20 سنة مرت بين العام 1809، حين كتب أوبراه الأولى وهو في الـ18، والعام 1829 حين أعاد النظر وهو مقيم في باريس في اثنتين من أوبراته السابقة، "حصار كورنثه" و"موسى"، وأنجز آخر أعماله في هذا المجال "وليام تيل" (1829) معوضاً بنجاحه على الفشل الذي كان من نصيب أوبراه "خليفة بغداد" (1826). أما بانسبة إلى "إليزابيث..."، فلا بد من أن نقول في عودة إليها إنها لقيت هوى في نفوس جمهور نابولي قبل أن يعاد عرضها مراراً وتكراراً، ويتقبل الجمهور دائماً فكرة أنها تشكل نوعاً من "أنتولوجيا" تكاد تختصر المسار الموسيقي الإبداعي السابق لروسيني، ممهدة لما سيأتي من مسار لاحق، فكانت نقطة انعطافية بين ذينك المسارين.
اقرأ المزيديحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من التاريخ الحقيقي
وتروي لنا الأوبرا في الفصلين اللذين تتألف منهما حكاية الملكة الإنجليزية اليزابيث الأولى، مع من كانت تفترض أنه عشيقها إيرل أوف ليسستر وقد عاد لتوه من معركة حاسمة هزم فيها الأسكوتلنديين، وها هوذا يحتفل في غرفة العرش في القصر الملكي بانتصاره مرفقاً بالعديد من الأسرى. لكن مفاجأته الكبرى ستكون وجود زوجته، غير المعلنة، ماتيلدا وشقيقها في عداد الأسرى، وهي كما نعرف ابنة ماري ملكة اسكوتلندا، وهو الأمر الذي سيتنبّه له مع دخول الملكة إلى القاعة جزلة مستبشرة في وقت يحاول فيه ليسستر إنقاذ امرأته وشقيقها بإخفاء هويتهما. لكن همّ ماتيلدا كان يكمن في مكان آخر، ذلك أنها اكتشفت أن الملكة إليزابيث تحب ليسستر ما يزيد من حزنها وشعورها بالخطر. يؤكد ليسستر حبه لماتيلدا، وقد قرر أن يمعن في إخفاء هويتها وهوية أخيها وعدم توجيه أي حديث إليهما. لكنه مع ذلك يسرّ لدوق نورفولك وهو غافل عن غيرة هذا الأخير منه بكل شيء. ولا يلبث نورفولك أن يخبر الملك بالحقيقة كلها، وقد لاحت له أخيراً فرصة ذهبية للتخلص من غريمه. وينتهي هذا الفصل على الملكة تستدعي ليسستر وماتيلدا وغيرها من الأسرى. وتعرض على ليسستر الاقتران بها وحين يرفض تتهمه بالخيانة العظمى وتأمر باعتقاله مع ماتيلدا.
الخائن يموت والنهاية سعيدة
في الفصل الثاني، نبدأ مع الملكة وقد حكمت على ماتيلدا بالإعدام مع أخيها، إن لم تتخلّ عن زواجها الذي بات معلناً من ليسستر موقعة وثيقة تنص على هذه الصفقة. وهنا يدخل ليسستر غاضباً ويمزق الوثيقة فيُعتقل من جديد، لكن الملكة لن تسع الآن عن منع نورفولك من إساءة معاملة ليسستر. وإذ ينتفض اللندنيون خارج القصر مطالبين بعدم إعدام بطلهم المنتصر ليسستر وقد تناهى الخبر إلى أسماعهم، يطل نورفولك على السابلة محرّضاً إياهم على محاولة تحرير ليسستر بأنفسهم وبالقوة. ومن ثم ننتقل إلى زنزانة ليسستر حيث يدخل عليه نورفولك محاولاً إقناعه بأنه قد تشفع له لدى الملكة. وفي اللحظة ذاتها تدخل الملكة فيختبئ نورفولك فوراً كما تفعل ماتيلدا وأخوها من جهة أخرى. وهنا يستغل ليسستر الفرصة لإخبار الملكة بأن كل ما اتهم به إنما كان على لسان نورفولك. وهنا يقفز هذا الأخير من مخبئه حاملاً خنجراً يصوبه نحو الملكة، لكن ماتيلدا تكون قد قفزت هي الأخرى من مخبئها قاطعة الطريق على تصويب نورفولك خنجره، ما ينقذ إليزابيث التي تأمر باعتقال نورفولك وإعدامه، في وقت صفحت فيه عن ليسستر وماتيلدا وبقية الأسرى الإسكتلنديين على وقع أغنية "يا للروح الكريمة الحلوة!"، التي ستصبح منذ ذلك الحين واحدة من أشهر الأغاني الإيطالية.
subtitle: صناعة إيطالية خالصة لموضوع إنجليزي شهد انطلاقة الإيقاع من مدينة الجنوبإبراهيم العريسpublication date: الأحد, أبريل 17, 2022 - 01:152024-11-07 13:50:47