<p>سكان خاركيف يحتمون في محطة مترو أنفاق جراء القصف في 10 مارس 2022 (غيتي)</p>
تحقيقات ومطولاتTags: خاركيفتحت الأرضمترو الأنفاقالقصف الروسيأوكرانياتسببت الحرب الدائرة في أوكرانيا في خلق عالمين في منطقة سالتيفكا في مدينة خاركيف، الأول فوق الأرض، وهو عبارة عن أحياء تضم صفوفاً من مبانٍ محطمة وسيارات متفحمة على الطرقات، وأفراد يحثون الخطى، ووجوه يعتريها الخوف تطل من نوافذ المنازل وسط دوي الانفجارات.
لكن في موازاة ذلك، هناك سالتيفكا أخرى تأوي مئات الأشخاص الذين اعتادوا على العيش مختبئين تحت الأرض، وهم يتجمعون جنباً إلى جنب داخل محطات مترو الأنفاق، يساورهم القلق في شأن ما إذا كانت منازلهم التي غادروها قد نجت من أتون القصف الصاروخي اليومي والقذائف المدفعية.
ويمكن القول إن سالتيفكا هي المنطقة الأكثر تعرضاً للقصف في خاركيف، إحدى أكثر المدن الأوكرانية التي شهدت قصفاً على نطاق واسع حتى الآن، في خضم الحرب الدائرة في البلاد.
وما زالت ثاني أبرز المدن في أوكرانيا تنتظر انسحاب القوات الروسية كما حدث من حول العاصمة كييف. ويبدو أن الهجوم الروسي ما زال متواصل الفصول هنا، فيما يحاول الكرملين إطباق السيطرة على منطقة دونباس التي تقع شرق المدينة، وإقفالها.
القوات الأوكرانية تمكنت بشق الأنفس من تحقيق مكاسب في القرى والبلدات حول مدينة خاركيف، لكن قوات فلاديمير بوتين ما زالت قريبةً من المدينة بما يكفي لتوجيه وابل من الضربات الصاروخية المميتة التي غالباً ما تكون عشوائية، نحو المناطق السكنية، الأمر الذي تسبب في ارتفاع حصيلة القتلى.
ويُعد السكان في بعض أنحاء سالتيفكا من بين أكثر الناس حرماناً من الناحية الاقتصادية في خاركيف، وهم في غالبيتهم إما عاطلون من العمل، أو مياومون [عمل غير منتظم]. ولا يملك كثيرون منهم الوثائق الثبوتية اللازمة لتلقي الدعم الحكومي الطارئ، ناهيك عن جوازات السفر للفرار من البلاد تفادياً للحرب.
أحد سكان المنطقة ويُدعى أولكسندر بافلويك، كان يتنقل بين مساكن مهجورة في عقار مهدم بكامله، محاولاً العثور على بقايا طعام يقتات به هو ووالدته المسنة. وما تمكن من العثور عليه بعد نحو ساعة ونصف من البحث، كان عبارةً عن رغيفين من الخبز اليابس، وبصلتين، و4 حبات بطاطا، و3 تفاحات متعفنة، وعلبة من سمك السلمون.
اقرأ المزيديحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكد لـ "اندبندنت" أن "معظم الناس الذين يعيشون في هذه الأنحاء، لم يكن لديهم أساساً كثيراً من الطعام في أي حال، لذا لم أكن أتوقع العثور على كثير منه". ويضيف، "التيار الكهربائي مقطوع هنا منذ أيام، الأمر الذي أدى إلى تعفن الطعام في الثلاجات. لكن العثور على سمك السلمون هو أمر جيد. وستُسر به والدتي كثيراً، فهو بمثابة ترف بالنسبة إليها. يسعدني كثيراً أن أتمكن من توفير غذاء مماثل لها في مثل هذه الأوقات. لقد بقيتُ هنا بسببها، فهي لا تريد المغادرة - لكن الحياة صعبة عليها، كما علينا".
ويوضح بافلويك أنه حاول إقناع والدته يوليا البالغة من العمر 73 سنة بضرورة الذهاب إلى مكان أكثر أماناً، محذراً إياها من أن البقاء في المنزل يُعد أمراً بالغ الخطورة، لكنه يقر بأنه فشل في جعلها تغير رأيها.
وعلى وقع أصوات الانفجارات، يحاول عامل البناء هذا، البالغ من العمر 42 سنة، الذي لم يعمل لمدة 5 أشهر حتى قبل بدء الحرب، وصف الوضع البائس الذي يعيشه هو ووالدته.
ويقول مشيراً إلى جدران مدمرة وشرفات متفككة ونوافذ محطمة، "ربما هم يحاولون قصف موقع عسكري (أوكراني) كان هناك. المركز تم نقله قبل فترة، لكنهم ما زالوا يقصفون هذه المنطقة. لقد تعرضنا أيضاً لقصف مباشر أصاب هذه المباني التي هي مجرد منازل للناس. القصف يتكرر كثيراً ولا أعرف لماذا. لقد رحل معظم الناس. ولم يبق كثير منهم هنا كي يتم قتلهم".
تقع مدينة خاركيف على بعد نحو 25 ميلاً (40 كيلومترا) فقط من روسيا، فيما تمتد ضاحية سالتيفكا إلى نقطة قريبة جداً من الحدود الروسية. ويقول أحد أبناء المنطقة المحليين ويُدعى دينيس زهيرافلوف، وهو يقف خارج مبنى سكني آخر، "إننا لا نبعد كثيراً عن مرمى قصفهم. ولم نشهد أي انخفاض ملموس في الهجمات منذ بدء محادثات السلام الجارية. قد يتوقفون لبضع ساعات ثم يعاودون الكرة من جديد".
ويتابع زهيرافلوف كلامه مبدياً رغبته في التحدث عن "الأنواع الجديدة" من القنابل التي يستخدمها الروس. وقال مشيراً إلى قطع قماش برتقالية تتدلى من أغصان شجرة، "انفجرت القنابل في الهواء، ثم تساقطت على الأرض لتنفجر مرةَ أخرى على مستوى منخفض. استخدموا جميع أنواع الأسلحة هنا. الناس يخشون الخروج من مخابئهم، ولهذا غادر معظمهم المكان. لقد توجه جيراننا إلى محطات القطار للاحتماء، وكثيرون غادروا المنطقة كلياً".
حركة النزوح من المنازل بحثاً عن ملجأ في محطات مترو الأنفاق، بدأت في اليوم الأول للحرب الروسية، في الرابع والعشرين من شهر فبراير (شباط). وقد انطلقت الأعمال العدائية في خاركيف بهجمات صاروخية متواصلة على المدينة، وأصيب المبنى السكني الذي تقطنه المواطنة أوكسانا كوفاليفا في خلال 45 دقيقة من الهجوم الصاروخي الأول. فسارعت إلى الإمساك بابنتها إيرينا البالغة من العمر 4 سنوات وبابنها يوري، وارتدت معطفاً وهرعت بهما إلى خارج المبنى.
من حسن حظ أوكسانا أن أسرةً أخرى كانت تفر هي أيضاً بسيارة توقفت لنقل السيدة كوفاليفا وطفليها إلى إحدى أقرب محطات مترو الأنفاق، حيث تم ركن السيارة واندفع الجميع للاحتماء تحت الأرض.
وتصف كوفاليفا تلك اللحظات، قائلة، "سرعان ما بدأ مزيد من الناس يتهافتون إلى تلك النقطة. كان الجميع في حال من الذعر - وكان دوي الانفجارات صاخباً إلى حد أننا كنا نسمعها تحت الأرض. لم أعد أفكر في شقتنا في ذلك الحين. لأننا كنا ممتنين لبقائنا على قيد الحياة، ولأن أطفالي كانوا بخير. لقد كان هروبنا مصدر ارتياح أكثر من أي شيء آخر".
زوج السيدة كوفاليفا ويُدعى أنطون، كان قد انضم إلى كتيبة متطوعين لمساعدة القوات الأوكرانية، وجرى نشر أفرادها على طول خط المواجهة شرق المدينة. وتستعيد أوكسانا لحظات الفرار قائلة، "كنتُ أعلم أنه سيكون شديد القلق علينا. حاولتُ عبثاً الاتصال به مرات في تلك الليلة. وفي اليوم التالي تمكنتُ من الاتصال بشقيقه الذي نقل إليه رسالةً تؤكد له أننا في أمان".
مع الوقت، أرسيت بنية حياة سكان مترو الأنفاق في خاركيف (غيتي)
بعد ثلاثة أيام، عادت كوفاليفا وجارتها إلى منزليهما لجمع مواد أساسية وجلب حيواناتهما الأليفة وهي كلب وقطتان. عادوا إلى محطة مترو "هيرويف براست" Heroiv Pratsi، التي لجأوا إليها للاحتماء منذ ذلك الحين، وهم ينامون في خيم على رصيف القطارات، ونادراً ما يغامرون بالخروج من المكان.
مع مرور الوقت، استُحدث نوعٍ من البنية المعيشية تحت الأرض، بحيث تم إنشاء عيادة طبية، فيما تتولى مجموعات الرعاية الاجتماعية ومنظمات دينية إمداد الناس بالطعام، ويجري إعطاء دروس للأطفال عبر الإنترنت، حتى أن خدمةً للعناية بالأظافر أنشئت. أما مسارات السكك الحديد التي لم تعد تسلكها القطارات، فتم استخدامها لسير الأفراد [الاهتداء بها] ما بين محطة وأخرى، بحثاً عن أماكن أخرى للإقامة.
لكن على الرغم من ذلك، فإن الناس لم يكونوا في منأى عن الخطر. فقد أصيب متجر سوبر ماركت بالقرب من محطة "هيرويف براتسي" أخيراً بصاروخ، ما أدى إلى جرح 8 أشخاص ومقتل 3 كانوا يقفون منتظرين دورهم للحصول على طعام. إحدى الضحايا كانت امرأة تحتمي في المحطة.
أناستازيا خاركوفا وهي ناشطة مقيمة في المحطة، تحدثت عن محاولات إرساء نوع من الروتين الطبيعي لمجتمعٍ يعيش على مقربة من عنف دموي طاغٍ فوق الأرض. وقالت في هذا الإطار: "لقد بدا واضحاً في وقت مبكر أن هذه الحرب يمكن أن تدوم لفترة طويلة جداً، ويتعين بذل أي جهد لجعل الحياة ممكنةً هنا. لقد تطوع كثير من الناس، وأتى أفراد متقاعدون لتقديم المساعدة. السلطات بذلت قصارى جهدها على ما أعتقد. وتلقينا أيضاً كثيراً من الدعم من الكنائس والأشخاص من مختلف الأديان. إننا جميعاً ممتنون جداً لما قامت به تلك الجهات".
مجموعة من معبد "هير كريشنا" (طائفة متصوفة من الديانة الهندوسية) أحضرت وجبات غداء مؤلفة من حساء وخبز وحلويات. وفي الأمس كان دور الكنيسة المعمدانية. ويقول أحد أتباع "هير كريشنا" في الوقت الذي كان فيه رفاقه ينشدون على وقع صنج وطبول: "إننا نعمل جميعاً جنباً إلى جنب، ونقوم بما في وسعنا. نحن لا نتطرق إلى الدين. إننا نقوم فقط بمساعدة بعضنا بعضاً".
الاختصاصية في المجال الاجتماعي لوبوف ميميلوفا عملت على إنشاء مجموعات لعب للأطفال في المحطات، حيث يمكن مشاهدة رسوم للأطفال على الجدران، وقد جرى تنظيم ألعاب وحفلات متنوعة. وتقول: "من الواضح أن ما يحصل له تأثير عميق في هؤلاء الفتيان والفتيات. فالسماح لهم بالتعبير عن مشاعرهم يُعد أمراً مهماً، لكن من المهم أيضاً إتاحة المجال أمامهم لعيش طفولتهم والحفاظ عليها ما أمكن في ظل هذه الظروف".
على الرصيف رقم 2، يُشاهد صف انتظار أمام السيدة فيكتوريا غونداروفا، وهي خبيرة تجميل تقدم خدمة تقليم الأظافر. وتقول هذه المرأة: "الجميع يريد مد يد المساعدة. هذا ما كنتُ أقوم به في حياتي العملية، وقد فكرتُ لماذا لا أقدم الخدمة هنا؟ سيكون ذلك بمثابة تذكير للأناث بحياتهن ما قبل الحرب، ومن شأنه أن يرسم البهجة على وجوههن قليلاً. فالجميع هم بحاجة إلى الشعور بنوع من البهجة في مثل هذه الأوضاع".
أما إيلينا دورو وهي طبيبة تعمل في أحد مستشفيات المدينة، فأقامت عيادةً بدوامٍ جزئي في ما كان في السابق مكتباً لبيع تذاكر ركوب القطارات. وتوضح أن هناك مشكلات نفسية وجسدية يتعين التعامل معها.
وتقول الطبيبة: "لاحظنا وجود أمراض معتادة في هذه المحطة - كالسعال ونزلات البرد - وتم تسجيل القليل من حوادث تعثر الأشخاص وسقوطهم، خصوصاً عندما كانوا يهرعون للوصول بأسرع ما يمكن إلى الملجأ خوفاً من القصف. كانت هناك أيضاً حالتا إصابة بعدوى ’كوفيد‘، وتبين أن الشخصين أصيبا بالمرض عند وصولهما إلى هنا، لكن تم إرسالهما لتلقي العلاج".
وتضيف الدكتورة دورو: "لكن لاحظنا أيضاً وجود مشكلات نفسية بالطبع. وهذا أمر متوقع من أفراد تحتم عليهم مواجهة مثل هذا الوضع. لكن ما لاحظناه تحديداً هو أن بعض الناس باتوا يخشون التوجه إلى مساحات مفتوحة، وعدم وجودهم بالقرب من أشخاص آخرين في أماكن مغلقة. إنه أمر يستوجب المعالجة عندما يتحسن الوضع".
وعلى الرغم من ذلك، يبقى الأمل قائماً، وقد عبر عنه أفراد موجودون على منصات محطة "هيرويف براستي"، وهم على يقين من أن الأمور ستتحسن.
أحد هؤلاء يُدعى نيكولاي شيفتشنكو الذي قال: "إننا بصدد رد العدو إلى الخلف، فهو لم يتمكن من الانقضاض على خاركيف. لقد فشل فلاديمير بوتين في احتلال بلادنا. إن البقاء هنا يدفعنا إلى الحزن، لكننا تمكنا من النجاة، وسنكون أقوياء عندما نخرج من هذا المكان".
ويختم شيفتشنكو بالقول: "لقد عانت أوكرانيا كثيراً من الخسائر، وكثيراً من الألم، لكن بلادنا متحدة. وسنكون أقوى بعد الذي حصل لنا، ولا شك لدينا في ذلك على الإطلاق".
subtitle: في سالتيفكا إحدى أفقر مناطق المدينة الأوكرانية وأكثرها تعرضاً للقصف، لجأ مئات من المدنيين إلى محطات المترو، وتحدث مختبئون تحت الأرض لـ "اندبندنت" عن طريقة تكاتفهم مجتمعياً سواء عبر إنشاء عيادة طبية أو إعطاء دروس للأطفال أو حتى إقامة خدمة للعناية بالأظافركيم سنغوبتاpublication date: الأحد, أبريل 10, 2022 - 09:302024-11-07 06:07:42