تحرَّرَتْ مدينة الفاو وعادتْ دبابات كتيبتي إِلى منطقة الفكَّة عند حدود مدينة العمارة مع إيران، كانت الدبابات في حالةٍ يرثى لها كما لو أنَّها خنازير نافقة في طين الهور؛ بدأنا بإدامتها على وجه السرعة، كُنَّا نتوقع وصول الأوامر بالتحرَّك إِلى جبهة أخرى على حين غرَّة، فالقيادة العسكرية غدتْ تتمتع بمعنويات عالية جداً بعد فرار الإيرانيين من جزيرة الفاو؛ بلْ بدأت القيادة تفكر باسترجاع حقول مجنون أيضا مستغلة حالة الفوضى التي طغت بشكل واضح على إيران بأكملها. كنتُ فوق دبابتي أزيل التراب الأسود عن برجها حين اقترب مني أحد جنود قلم السريَّة؛ تأمَّلني بنظرةِ إشفاقٍ ثمَّ قال بصوت يشوبه الحزن:
- غداً صباحاً؛ سيأخذك المأمور إِلى المحكمة العسكرية.
ارتعدَ جسدي لسماع هذا الخبر؛ ضربتُ المكنسة التي كانت بيدي على رأسي من شدَّة الصدمة، لأترك الدبابة مشدوهاً وانسلُّ إِلى الملجأ، ثمَّة دموع ذليلة بدأت تسيل على خدي، عندما هبط الظلام قرَّرتُ الفرار من الكتيبة لكني عدلت عن تلك الفكرة لأن السيطرات ستلقي القبض على جسدي المنهك من التعب لا محالة. أطلَّ الصباح مكفهرَّاً مثل وجهي؛ أخذ بيدي رأس عرفاء من أهالي الحلَّة إِلى المحكمة العسكرية في منطقة قلعة صالح؛ كان فناء بناية المحكمة يغوص بالجنود الهاربين الذين جاءوا مع مأموريهم لينالوا الحكم مثلي نتيجة هروبهم من الحرب أيضا، انتظرتُ لساعاتٍ طويلةٍ حتى سمعتُ أحد حرَّاس المحكمة ينادي على اسمي بصوتٍ مرتفعٍ للمثول أمام القاضي؛ دخلتُ إِلى قاعة المحكمة برفقة مأموري الحلاّوي بعد أنْ جردني الحارس من نطاقي وقبَّعة رأسي، اهتزَّ بدني حين رأيتُ أربعة ضبَّاط بوجوه واجمة يجلسون خلف منصَّة مرتفعة كان يتوسَّطهم ضابط برتبة عقيد، سألني باحتقار بعد دخولي إِلى القفص الحديدي:
- لماذا هربتْ؟
- سيدي أنا شاعر؛ هربت لأني..
بترتْ كلامي جلجلة ضحكات الضباط الأربعة هازئة بقسوة لدى سماعهم هذه المعلومة مني، سألني العقيد ساخراً هذه المرَّة:
- شاعر! هه.. كم كان هروبك؛ أجبْ بسرعة؟
- أربعة شهور سيدي.
- من أيَّة جبهةٍ هربتْ؟
- لم أهربْ من الجبهة سيدي.
- إذا لم تكنْ هارباً لماذا أنتَ أمامي؟
- سيدي، هربتُ من الكتيبة عندما كانت في معسكر دروع تكريت لإعادة التنظيم.
- هل اشتركت في المعارك؟
- كثيرة هي المعارك التي اشتركت فيها سيدي.
- وماذا رأيت؟
- رأيت ما يشيب لهُ الرأس سيدي.
- مثلاً؟
- في معركة شرق البصرة وبعدَ سجالٍ استمر لثلاثِ ليالٍ عنيفةٍ وداميةٍ؛ تمكَّنَ الإيرانيون من دحرنا؛ فتركتُ دبابتي بعد احتراقها لانخرط مع جنود المشاة المهرولين نحو مدينة البصرة، خلال الطريق سقطتْ قذيفة على بعد أمتارٍ من تواجدنا لتبترَ ذراع أحد جنود المشاة؛ لمْ يشعر بفقدان ذراعه اليمنى إلاَّ بعد دقائق؛ سألنا بهلعٍ عن ذراعه المبتورة فأشرتُ نحوها، لما شاهدها ملقاة على الأرض الرملية عادَ لالتقاطها؛ ونحن نتوسَّل بهِ أنْ يتركها؛ لكنَّهُ أغارَ عليها مثل ذئبٍ جريحٍ وحملها مثل بندقية على كتفه الأيسر؛ التحق بنا والدم مازال ينزف من رمَّانة كتفه الأيمن؛ لمْ يشعر بألم لأنَّ موقع الإصابة مازال مخدَّراً من شدَّة البتر؛ أخبرنا وهو يخبط على ذراعه المبتورة بكفّه اليسرى:
- أعطيها لكلاب القرية ولا اتركها لهم.
بعدها بدقائق فقدَ الوعي ثم أسلم الروح.
هنا أشعل الضابط الذي على يمين المنصة عود كبريت لسيجارة العقيد التي وضعها بفمه ثمَّ نفث دخانها إِلى فضاء القاعة منبهراً بحكاية هذا الحمل الوديع الذي يقف أمامهُ؛ قال بتوتر فجأةً:
- اسمعْ أيها الشاعر قرار الحكم..
- نعم سيدي.
- حكمتْ المحكمة العسكرية على المجرم..
راحَ يقلّبُ الأوراق التي أمامه بحثاً عن اسمي؛ ثمَّ أكمل قرار الحكم بعد أنْ نطق اسمي.. وصاح آمراً:
- حرسْ.. أخرجوهُ من القاعة.
ألقى المأمور التحية العسكرية للقضاة الأربعة ثمَّ سحبني برفقٍ إِلى خارج قاعة المحكمة؛ أحاطَ بي مجموعة من الجنود، سألني بعضهم عن قرار الحكم؟ أجبتهم بنبرةٍ مرتبكةٍ لم أتمكَّنْ من تفاديها:
- ثمانية شهور حبس مع اعتبار هروبي جريمة مُخلَّة بالشرف.
علَّقَ أحدهم يواسيني:
- عبارة جريمة مخلَّة بالشرف أصبحتْ مألوفة لدينا، كما أنَّ ثمانية شهور سهلة جداً.
قال آخر ليشدَّ من أزري:
- ماهي إلاَّ غفوة طويلة في السجن حتى تجد مدة الحكم منتهية.
حين تركنا المحكمة شعرتُ أنَّ قوايَ فرَّتْ من جسدي فجأةً، ناشدتُ المأمور حتى أنال قسطاً من الراحة على الأرض المتربة؛ تعاطف معي وسمح لي بذلك، كانت أنفاسي تتقطَّع في رئتي وشعرت بالغثيان ثمَّ اهتز جسدي بانتفاضةٍ عصيبةٍ كالمصروع حتى غزى العرق جلدي، لكنَّ نسمة هواء هبَّتْ على وجهي أعادتْ لي انتباهي فنهضتُ أسعلُ من قسوة الاختناق؛ لاستنشق بعدها نفساً عميقاً؛ قلت للمأمور:
- لا تقلق.. لقد تجاوزت الأزمة.
تبسَّم المأمور ثمَّ أهداني سيجارة مشتعلة قائلاً:
- دخِّنْ حتى ترتاح؛ وليكنْ إيمانك بالله قويَّاً.
حسن النواب
2024-09-21 12:59:01