Breaking News >> News >> Azzaman


المحكمة (48)-حسن النواب


Link [2022-04-11 05:32:57]



تحرَّرَتْ‭ ‬مدينة‭ ‬الفاو‭ ‬وعادتْ‭ ‬دبابات‭ ‬كتيبتي‭ ‬إِلى‭ ‬منطقة‭ ‬الفكَّة‭ ‬عند‭ ‬حدود‭ ‬مدينة‭ ‬العمارة‭ ‬مع‭ ‬إيران،‭ ‬كانت‭ ‬الدبابات‭ ‬في‭ ‬حالةٍ‭ ‬يرثى‭ ‬لها‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنَّها‭ ‬خنازير‭ ‬نافقة‭ ‬في‭ ‬طين‭ ‬الهور؛‭ ‬بدأنا‭ ‬بإدامتها‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬السرعة،‭ ‬كُنَّا‭ ‬نتوقع‭ ‬وصول‭ ‬الأوامر‭ ‬بالتحرَّك‭ ‬إِلى‭ ‬جبهة‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬غرَّة،‭ ‬فالقيادة‭ ‬العسكرية‭ ‬غدتْ‭ ‬تتمتع‭ ‬بمعنويات‭ ‬عالية‭ ‬جداً‭ ‬بعد‭ ‬فرار‭ ‬الإيرانيين‭ ‬من‭ ‬جزيرة‭ ‬الفاو؛‭ ‬بلْ‭ ‬بدأت‭ ‬القيادة‭ ‬تفكر‭ ‬باسترجاع‭ ‬حقول‭ ‬مجنون‭ ‬أيضا‭ ‬مستغلة‭ ‬حالة‭ ‬الفوضى‭ ‬التي‭ ‬طغت‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬على‭ ‬إيران‭ ‬بأكملها‭. ‬كنتُ‭ ‬فوق‭ ‬دبابتي‭ ‬أزيل‭ ‬التراب‭ ‬الأسود‭ ‬عن‭ ‬برجها‭ ‬حين‭ ‬اقترب‭ ‬مني‭ ‬أحد‭ ‬جنود‭ ‬قلم‭ ‬السريَّة؛‭ ‬تأمَّلني‭ ‬بنظرةِ‭ ‬إشفاقٍ‭ ‬ثمَّ‭ ‬قال‭ ‬بصوت‭ ‬يشوبه‭ ‬الحزن‭:‬

‭- ‬غداً‭ ‬صباحاً؛‭ ‬سيأخذك‭ ‬المأمور‭ ‬إِلى‭ ‬المحكمة‭ ‬العسكرية‭. ‬

ارتعدَ‭ ‬جسدي‭ ‬لسماع‭ ‬هذا‭ ‬الخبر؛‭ ‬ضربتُ‭ ‬المكنسة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بيدي‭ ‬على‭ ‬رأسي‭ ‬من‭ ‬شدَّة‭ ‬الصدمة،‭ ‬لأترك‭ ‬الدبابة‭ ‬مشدوهاً‭ ‬وانسلُّ‭ ‬إِلى‭ ‬الملجأ،‭ ‬ثمَّة‭ ‬دموع‭ ‬ذليلة‭ ‬بدأت‭ ‬تسيل‭ ‬على‭ ‬خدي،‭ ‬عندما‭ ‬هبط‭ ‬الظلام‭ ‬قرَّرتُ‭ ‬الفرار‭ ‬من‭ ‬الكتيبة‭ ‬لكني‭ ‬عدلت‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الفكرة‭ ‬لأن‭ ‬السيطرات‭ ‬ستلقي‭ ‬القبض‭ ‬على‭ ‬جسدي‭ ‬المنهك‭ ‬من‭ ‬التعب‭ ‬لا‭ ‬محالة‭. ‬أطلَّ‭ ‬الصباح‭ ‬مكفهرَّاً‭ ‬مثل‭ ‬وجهي؛‭ ‬أخذ‭ ‬بيدي‭ ‬رأس‭ ‬عرفاء‭ ‬من‭ ‬أهالي‭ ‬الحلَّة‭ ‬إِلى‭ ‬المحكمة‭ ‬العسكرية‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬قلعة‭ ‬صالح؛‭ ‬كان‭ ‬فناء‭ ‬بناية‭ ‬المحكمة‭ ‬يغوص‭ ‬بالجنود‭ ‬الهاربين‭ ‬الذين‭ ‬جاءوا‭ ‬مع‭ ‬مأموريهم‭ ‬لينالوا‭ ‬الحكم‭ ‬مثلي‭ ‬نتيجة‭ ‬هروبهم‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬أيضا،‭ ‬انتظرتُ‭ ‬لساعاتٍ‭ ‬طويلةٍ‭ ‬حتى‭ ‬سمعتُ‭ ‬أحد‭ ‬حرَّاس‭ ‬المحكمة‭ ‬ينادي‭ ‬على‭ ‬اسمي‭ ‬بصوتٍ‭ ‬مرتفعٍ‭ ‬للمثول‭ ‬أمام‭ ‬القاضي؛‭ ‬دخلتُ‭ ‬إِلى‭ ‬قاعة‭ ‬المحكمة‭ ‬برفقة‭ ‬مأموري‭ ‬الحلاّوي‭ ‬بعد‭ ‬أنْ‭ ‬جردني‭ ‬الحارس‭ ‬من‭ ‬نطاقي‭ ‬وقبَّعة‭ ‬رأسي،‭ ‬اهتزَّ‭ ‬بدني‭ ‬حين‭ ‬رأيتُ‭ ‬أربعة‭ ‬ضبَّاط‭ ‬بوجوه‭ ‬واجمة‭ ‬يجلسون‭ ‬خلف‭ ‬منصَّة‭ ‬مرتفعة‭ ‬كان‭ ‬يتوسَّطهم‭ ‬ضابط‭ ‬برتبة‭ ‬عقيد،‭ ‬سألني‭ ‬باحتقار‭ ‬بعد‭ ‬دخولي‭ ‬إِلى‭ ‬القفص‭ ‬الحديدي‭: ‬

‭- ‬لماذا‭ ‬هربتْ؟

‭- ‬سيدي‭ ‬أنا‭ ‬شاعر؛‭ ‬هربت‭ ‬لأني‭.. ‬

بترتْ‭ ‬كلامي‭ ‬جلجلة‭ ‬ضحكات‭ ‬الضباط‭ ‬الأربعة‭ ‬هازئة‭ ‬بقسوة‭ ‬لدى‭ ‬سماعهم‭ ‬هذه‭ ‬المعلومة‭ ‬مني،‭ ‬سألني‭ ‬العقيد‭ ‬ساخراً‭ ‬هذه‭ ‬المرَّة‭:‬

‭- ‬شاعر‭! ‬هه‭.. ‬كم‭ ‬كان‭ ‬هروبك؛‭ ‬أجبْ‭ ‬بسرعة؟

‭- ‬أربعة‭ ‬شهور‭ ‬سيدي‭.‬

‭- ‬من‭ ‬أيَّة‭ ‬جبهةٍ‭ ‬هربتْ؟

‭- ‬لم‭ ‬أهربْ‭ ‬من‭ ‬الجبهة‭ ‬سيدي‭.‬

‭- ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تكنْ‭ ‬هارباً‭ ‬لماذا‭ ‬أنتَ‭ ‬أمامي؟

‭- ‬سيدي،‭ ‬هربتُ‭ ‬من‭ ‬الكتيبة‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬معسكر‭ ‬دروع‭ ‬تكريت‭ ‬لإعادة‭ ‬التنظيم‭.‬

‭- ‬هل‭ ‬اشتركت‭ ‬في‭ ‬المعارك؟

‭- ‬كثيرة‭ ‬هي‭ ‬المعارك‭ ‬التي‭ ‬اشتركت‭ ‬فيها‭ ‬سيدي‭.‬

‭- ‬وماذا‭ ‬رأيت؟

‭- ‬رأيت‭ ‬ما‭ ‬يشيب‭ ‬لهُ‭ ‬الرأس‭ ‬سيدي‭.‬

‭- ‬مثلاً؟

‭- ‬في‭ ‬معركة‭ ‬شرق‭ ‬البصرة‭ ‬وبعدَ‭ ‬سجالٍ‭ ‬استمر‭ ‬لثلاثِ‭ ‬ليالٍ‭ ‬عنيفةٍ‭ ‬وداميةٍ؛‭ ‬تمكَّنَ‭ ‬الإيرانيون‭ ‬من‭ ‬دحرنا؛‭ ‬فتركتُ‭ ‬دبابتي‭ ‬بعد‭ ‬احتراقها‭ ‬لانخرط‭ ‬مع‭ ‬جنود‭ ‬المشاة‭ ‬المهرولين‭ ‬نحو‭ ‬مدينة‭ ‬البصرة،‭ ‬خلال‭ ‬الطريق‭ ‬سقطتْ‭ ‬قذيفة‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬أمتارٍ‭ ‬من‭ ‬تواجدنا‭ ‬لتبترَ‭ ‬ذراع‭ ‬أحد‭ ‬جنود‭ ‬المشاة؛‭ ‬لمْ‭ ‬يشعر‭ ‬بفقدان‭ ‬ذراعه‭ ‬اليمنى‭ ‬إلاَّ‭ ‬بعد‭ ‬دقائق؛‭ ‬سألنا‭ ‬بهلعٍ‭ ‬عن‭ ‬ذراعه‭ ‬المبتورة‭ ‬فأشرتُ‭ ‬نحوها،‭ ‬لما‭ ‬شاهدها‭ ‬ملقاة‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬الرملية‭ ‬عادَ‭ ‬لالتقاطها؛‭ ‬ونحن‭ ‬نتوسَّل‭ ‬بهِ‭ ‬أنْ‭ ‬يتركها؛‭ ‬لكنَّهُ‭ ‬أغارَ‭ ‬عليها‭ ‬مثل‭ ‬ذئبٍ‭ ‬جريحٍ‭ ‬وحملها‭ ‬مثل‭ ‬بندقية‭ ‬على‭ ‬كتفه‭ ‬الأيسر؛‭ ‬التحق‭ ‬بنا‭ ‬والدم‭ ‬مازال‭ ‬ينزف‭ ‬من‭ ‬رمَّانة‭ ‬كتفه‭ ‬الأيمن؛‭ ‬لمْ‭ ‬يشعر‭ ‬بألم‭ ‬لأنَّ‭ ‬موقع‭ ‬الإصابة‭ ‬مازال‭ ‬مخدَّراً‭ ‬من‭ ‬شدَّة‭ ‬البتر؛‭ ‬أخبرنا‭ ‬وهو‭ ‬يخبط‭ ‬على‭ ‬ذراعه‭ ‬المبتورة‭ ‬بكفّه‭ ‬اليسرى‭:‬

‭- ‬أعطيها‭ ‬لكلاب‭ ‬القرية‭ ‬ولا‭ ‬اتركها‭ ‬لهم‭.‬

بعدها‭ ‬بدقائق‭ ‬فقدَ‭ ‬الوعي‭ ‬ثم‭ ‬أسلم‭ ‬الروح‭.‬

هنا‭ ‬أشعل‭ ‬الضابط‭ ‬الذي‭ ‬على‭ ‬يمين‭ ‬المنصة‭ ‬عود‭ ‬كبريت‭ ‬لسيجارة‭ ‬العقيد‭ ‬التي‭ ‬وضعها‭ ‬بفمه‭ ‬ثمَّ‭ ‬نفث‭ ‬دخانها‭ ‬إِلى‭ ‬فضاء‭ ‬القاعة‭ ‬منبهراً‭ ‬بحكاية‭ ‬هذا‭ ‬الحمل‭ ‬الوديع‭ ‬الذي‭ ‬يقف‭ ‬أمامهُ؛‭ ‬قال‭ ‬بتوتر‭ ‬فجأةً‭: ‬

‭- ‬اسمعْ‭ ‬أيها‭ ‬الشاعر‭ ‬قرار‭ ‬الحكم‭..‬

‭- ‬نعم‭ ‬سيدي‭. ‬

‭- ‬حكمتْ‭ ‬المحكمة‭ ‬العسكرية‭ ‬على‭ ‬المجرم‭..‬

راحَ‭ ‬يقلّبُ‭ ‬الأوراق‭ ‬التي‭ ‬أمامه‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬اسمي؛‭ ‬ثمَّ‭ ‬أكمل‭ ‬قرار‭ ‬الحكم‭ ‬بعد‭ ‬أنْ‭ ‬نطق‭ ‬اسمي‭.. ‬وصاح‭ ‬آمراً‭:  ‬

‭- ‬حرسْ‭.. ‬أخرجوهُ‭ ‬من‭ ‬القاعة‭.‬

ألقى‭ ‬المأمور‭ ‬التحية‭ ‬العسكرية‭ ‬للقضاة‭ ‬الأربعة‭ ‬ثمَّ‭ ‬سحبني‭ ‬برفقٍ‭ ‬إِلى‭ ‬خارج‭ ‬قاعة‭ ‬المحكمة؛‭ ‬أحاطَ‭ ‬بي‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الجنود،‭ ‬سألني‭ ‬بعضهم‭ ‬عن‭ ‬قرار‭ ‬الحكم؟‭ ‬أجبتهم‭ ‬بنبرةٍ‭ ‬مرتبكةٍ‭ ‬لم‭ ‬أتمكَّنْ‭ ‬من‭ ‬تفاديها‭: ‬

‭-  ‬ثمانية‭ ‬شهور‭ ‬حبس‭ ‬مع‭ ‬اعتبار‭ ‬هروبي‭ ‬جريمة‭ ‬مُخلَّة‭ ‬بالشرف‭. ‬

علَّقَ‭ ‬أحدهم‭ ‬يواسيني‭: ‬

‭- ‬عبارة‭ ‬جريمة‭ ‬مخلَّة‭ ‬بالشرف‭ ‬أصبحتْ‭ ‬مألوفة‭ ‬لدينا،‭ ‬كما‭ ‬أنَّ‭ ‬ثمانية‭ ‬شهور‭ ‬سهلة‭ ‬جداً‭.‬

قال‭ ‬آخر‭ ‬ليشدَّ‭ ‬من‭ ‬أزري‭: ‬

‭- ‬ماهي‭ ‬إلاَّ‭ ‬غفوة‭ ‬طويلة‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬حتى‭ ‬تجد‭ ‬مدة‭ ‬الحكم‭ ‬منتهية‭.‬

حين‭ ‬تركنا‭ ‬المحكمة‭ ‬شعرتُ‭ ‬أنَّ‭ ‬قوايَ‭ ‬فرَّتْ‭ ‬من‭ ‬جسدي‭ ‬فجأةً،‭ ‬ناشدتُ‭ ‬المأمور‭ ‬حتى‭ ‬أنال‭ ‬قسطاً‭ ‬من‭ ‬الراحة‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬المتربة؛‭ ‬تعاطف‭ ‬معي‭ ‬وسمح‭ ‬لي‭ ‬بذلك،‭ ‬كانت‭ ‬أنفاسي‭ ‬تتقطَّع‭ ‬في‭ ‬رئتي‭ ‬وشعرت‭ ‬بالغثيان‭ ‬ثمَّ‭ ‬اهتز‭ ‬جسدي‭ ‬بانتفاضةٍ‭ ‬عصيبةٍ‭ ‬كالمصروع‭ ‬حتى‭ ‬غزى‭ ‬العرق‭ ‬جلدي،‭ ‬لكنَّ‭ ‬نسمة‭ ‬هواء‭ ‬هبَّتْ‭ ‬على‭ ‬وجهي‭ ‬أعادتْ‭ ‬لي‭ ‬انتباهي‭ ‬فنهضتُ‭ ‬أسعلُ‭ ‬من‭ ‬قسوة‭ ‬الاختناق؛‭ ‬لاستنشق‭ ‬بعدها‭ ‬نفساً‭ ‬عميقاً؛‭ ‬قلت‭ ‬للمأمور‭: ‬

‭- ‬لا‭ ‬تقلق‭.. ‬لقد‭ ‬تجاوزت‭ ‬الأزمة‭.‬

تبسَّم‭ ‬المأمور‭ ‬ثمَّ‭ ‬أهداني‭ ‬سيجارة‭ ‬مشتعلة‭ ‬قائلاً‭:‬

‭- ‬دخِّنْ‭ ‬حتى‭ ‬ترتاح؛‭ ‬وليكنْ‭ ‬إيمانك‭ ‬بالله‭ ‬قويَّاً‭.‬

حسن‭ ‬النواب



Most Read

2024-09-21 12:59:01