كأنَّ بيني وبين الموت معاهدة صداقة، وإلاّ كيف مازلتُ أتنفس الهواء والموت يرافقني في كل ساعةٍ؟ دعكتُ قرص الهوية لأزيل عنهُ سخام القنابل؛ فظهر اسمي وفصيلة دمي ورقم وحدتي العسكرية محفوراً عليها. طالما انصهر قرص الألمنيوم هذا مع حامله نتيجة النار المشتعلة في جثة الجندي المنكود الحظ، بينما يجلس ثلَّة مرائين في نادي الأدباء وهم بأحلى بدلاتهم الزيتونية، يكرعونَ البيرة نخب «حُرَّاس الوطن»؛ كنتُ أبحثُ عن موتٍ يريحني من كل هذا العناء. إنَّ أقصى سعادة للجندي في الحرب هي موته؛ أجل.. ذلك أنَّ مقتله في الجبهات أهون بكثير من قبض الزنابير عليهِ أمام أنظار الناس. ذات يوم باغتَ الزنابير منطقة سكناي بحثاً عن الهاربين؛ ولما كنتُ متأخراً عن موعد الإجازة ليومين، اضطررتُ الاختفاء في تنور الخبز فوق سطح الدار، وكان جمره يستعر تحت قدمي، كنتُ ألهجُ ثملاً:
- يا صعلوك، احترقْ في تنور أمك، ولا تصطلي بنار الجبهات.
بعد ساعتين انصرف الزنابير، لكنَّ جمر التنور مازال يلسع أقدامي وأشمُّ دخانه وهو يتصاعد من دهليز صدري. وها أنا أعود مرَّةً أخرى بعد سنتين من احتلال الفاو لأقف بدبابتي على مشارفها، أترقَّبُ فجراً يحملُ على أجنحتهِ الأرجوانية أوامر التقدُّم إِلى تحريرها؛ وهذا ما جرى بعد مضي سويعاتٍ وقبل بزوغ شمس البصرة على دباباتنا؛ إذْ اشتعل الأفق البعيد بوميض المدفعية، كان المشهد مهولاً، طالما ألفتُ رؤية الأفق عند الفجر بلون أرجواني أو وردي كوجه عروس في ليلة دخلتها، وها أنا أراهُ يلصفُ بالذهب الدامي مع دوي هائل لمدفعيةٍ بعدد النخيل، رأيتُ جنود المشاة يتخلُّونَ عن بطانياتهم الخضر التي يحملونها على أكتافهم ويغيبونَ في لجة الشفق الوردي، بدتْ البطانيات المهملة فوق الساتر كبراز ضفادعٍ في بركة راكدة؛ فاقم من كآبة المنظر جذوع النخل التي نحرت أعناقها بالشظايا، ظلَّ القصف يدوي لمدَّة ساعة؛ تمكَّنتْ خلالها ألوية المشاة التي سبقتنا من عبور السدَّتين جيم وباء؛ بينما زحفتْ دباباتنا على طريق ترابي لا يسع إلاَّ لعجلةٍ واحدةٍ بالحركة، أول ما صادفت رتلاً من جثث الجنود على جنب الساتر وأقنعة الوقاية محترقة على وجوههم حتى وصلنا إِلى ساترٍ شُيَّد على عجلٍ، كان على الدبابات الصعود على مثابة الرمي بسرعة لتطلق قذائفها على أبراج مراقبة الإيرانيين والعودة بسرعة للاختباء في موضع مجاور لمنصة الرمي، تسلَّقتُ بدبابتي منصَّة الرمي لألمحُ حمامة مفزوعة تقفُ على ساتر ترابي، سرعان ما غطَّتها سحابة دخان لقذيفةٍ سقطتْ بجوارها، وحين تلاشى دخان القذيفة، رأيتُ الحمامة تنتفض والدماء تصبغ ريشها الأبيض حتى استكانتْ فجأةً، أمرونا بالتقدُّم، فزمجرتْ المسرَّفاتْ بدربٍ موحلٍ لدقائق لنتوزَّع بعدها على سواتر مبعثرة، رأيت أمامي على مدَّ البصر سهلاً من الملح مرقَّطٌ بثقوب سود هي أثر سقوط القنابل، كما لو أنَّهُ جلد حيوان خرافي أصيب بالجُدري، ترجَّلتُ من دبابتي إلى خندقٍ ضيق فاقشعر جلدي وانقبض قلبي وأنا أرى عشرات الجنود يتوسَّدونَ الأرض كأوثانٍ من الطين؛ وعلى وجوههم الأقنعة التي احترق بعضها وملابسهم مخضَّبة بالدم؛ كان بعضهم يمسك بزمزمية الماء قبل أنْ يلفظ أنفاسه الأخيرة، بيد أن الذي أربكني وجعل الدمع يتصبب من عيني سخينا، رؤيتي لجثة جندي أمسك بيده صورة عائلته قبل أن يفارق الحياة بينما كانت على مقربة من جثته محفظته مفتوحة وهي مليئة بالخيوط الخضر التي ربما جلبها من أحد الأولياء الصالحين للحفاظ على حياته، لقد بعثر شجاعتي ذلك المشهد؛ كدتُ أفقد يقيني من جدوى التعويذة التي وضعتها أمي على زندي الأيمن، كان ذلك الجندي يدعى نذر عباس خضير من أهالي الحمزة الشرقي، فلقد قلبت الصورة التي بيده وعرفت منها هذه المعلومة ثمَّ أعدتها بين أصابعه المتورمة، لم يدم الأمر طويلا، بعد ليلة وصلت الدبابات إِلى ارض الفاو معلنة تحريرها بثقة راسخة، كانت ملامح ورائحة الإيرانيين واضحة على المكان بعد احتلال دام أكثر من سنتين، طالعتنا يافطات مكتوبة على حيطان البيوت بشعارات دينية سرعان ما أزيلت وكتب بدلاً عنها بلون احمر شعارات جاهزة تمجد الرئيس؛ بينما تمادى أحد الجنود المتطرفين ليكتب عبارة تسيء إِلى طائفة بعينها وحين جوبه باعتراض شديد من قبل بعض الجنود تراجع عن فعلته المشينة وشطب عبارته تلك وكتب بدلاً عنها شعاراً يمجد الرئيس؛ باتَ بعض الجنود يفكرون بشيء واحد هو الانتقام من هذا الجندي الأحمق عندما تسنح لهم الفرصة وقد اشتعل في قلوبهم الغضب؛ أصبح ديدنهم ذلك الجندي المتطرّف الذي شتم تراثاً عريقاً لدمائهم ورمزاً مقدَّساً لوجودهم، أخبرني أحدهم أنه بعد منتصف الليل رأى ذلك الجندي المتطرف يتبوَّل على مثابة قريبة وصادفت حينها نوبة حراسته وتابع يقول:
- صوبت البندقية على رأسه مقررا الإطاحة به، لكن نجمة خرت في السماء فجأة أو ربما كان شهب قذيفة تائهة أثلجت أصابعي، كدت أطلق الرصاصة على رأسه؛ لكن ثمَّة هاجس ملحاح راح يهتف في رأسي مع خرير النجمة، دعهُ، دعهُ..
عندما أطلَّ الصباح وجدوا ذلك الجندي المتعصب مقتولاً في موضعه جزاء العبارة التي كتبها وكانت شتيمة لئيمة بحق أحد أولياء الله الصالحين، يبدو أن أحدهم لم يتحمل ما فعله ولذا أهداه طلقة مباغتة في رأسه وربما شظايا قصف عشوائي قد قتلته برغم يقيني أنَّ مصرعه إنَّما كان بإرادة من الله. أدركتُ أنَّ بعض الجنود يقاتلون عدوا أمامهم وآخر ينام معهم في ذات الملجأ ولم يكن قتالهم الشرس لأجل البلاد وحدها؛ بلْ إنَّ بعضهم كان يقاتل بضراوة لأجل بقاء الرئيس على سدَّة الطغيان، فكتبت قصيدتي القصيرة:
«إلهي..
لماذا تدعهُ يستلذُّ بدمائنا؟
ونتلظَّى بجمرة شهوته للخراب»
حسن النواب
2024-09-22 00:34:00