Breaking News >> News >> Azzaman


شاي في خوذة (46)-حسن النواب


Link [2022-03-27 23:53:23]



فاجأني‭ ‬آمر‭ ‬كتيبتي‭ ‬حينَ‭ ‬وهبني‭ ‬شربة‭ ‬ماء‭ ‬من‭ ‬زمزميتهِ‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭ ‬الدامية؛‭ ‬لمْ‭ ‬أصدّقْ‭ ‬أنَّ‭ ‬أنفاسي‭ ‬مازالت‭ ‬تلهثُ‭ ‬في‭ ‬رئتيَّ‭ ‬تلك‭ ‬اللحظات؛‭ ‬جرعة‭ ‬الماء‭ ‬تلك‭ ‬أعادتْ‭ ‬الأمل‭ ‬إِلى‭ ‬مزاغل‭ ‬روحي‭ ‬الموحشة؛‭ ‬لكني‭ ‬اكتشفتُ‭ ‬أنَّ‭ ‬رشقة‭ ‬الماء‭ ‬من‭ ‬الآمر‭ ‬والتي‭ ‬روتْ‭ ‬جفاف‭ ‬دمي‭ ‬لم‭ ‬تكنْ‭ ‬لأجل‭ ‬الله‭! ‬إذْ‭ ‬أمرني‭ ‬بمنحهِ‭ ‬بندقيتي‭ ‬التي‭ ‬كنتُ‭ ‬أحملها‭ ‬على‭ ‬كتفي؛‭ ‬يبدو‭ ‬أنَّ‭ ‬الآمر‭ ‬تركَ‭ ‬دبابته‭ ‬لباعثٍ‭ ‬أجهلهُ‭ ‬ولم‭ ‬يتمكَّن‭ ‬من‭ ‬إنقاذ‭ ‬سلاحهُ‭ ‬معه؛‭ ‬تساءلتُ‭ ‬مرتبكاً‭: ‬

‭-  ‬سيدي؛‭ ‬وهل‭ ‬أبقى‭ ‬بلا‭ ‬بندقية؟‭ ‬

‭- ‬سأعيدها‭ ‬إليك‭ ‬عندما‭ ‬ينبلج‭ ‬الفجر‭.‬

ربما‭ ‬يظنُّ‭ ‬البعض‭ ‬أنَّ‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬مع‭ ‬الآمر‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الدقائق‭ ‬العصيبة‭ ‬ضربٌ‭ ‬من‭ ‬الخيال؛‭ ‬لكنَّ‭ ‬وقائع‭ ‬تلك‭ ‬المعركة‭ ‬الضارية،‭ ‬جعلتْ‭ ‬جميع‭ ‬الضبَّاط‭ ‬بوجوهٍ‭ ‬واجمةٍ‭ ‬ويأسٍ‭ ‬وقلقٍ‭ ‬وارتباكٍ‭ ‬وفقدوا‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬زمام‭ ‬المعركة،‭ ‬لقدْ‭ ‬اختلط‭ ‬الحابل‭ ‬بالنابل؛‭ ‬كان‭ ‬منتظراً‭ ‬أنَّ‭ ‬العدو‭ ‬سيفاجئكَ‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬غرَّةٍ‭ ‬ويطلق‭ ‬عليك‭ ‬الرصاص؛‭ ‬ولذا‭ ‬كان‭ ‬الجنود‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظات‭ ‬الحرجة‭ ‬بحاجةٍ‭ ‬إِلى‭ ‬سلاحٍ‭ ‬يدافعونَ‭ ‬بهِ‭ ‬عن‭ ‬حياتهم‭ ‬وذلك‭ ‬أضعف‭ ‬الإيمان؛‭ ‬إزاء‭ ‬هذه‭ ‬المعادلة‭ ‬رجَّحً‭ ‬الآمر‭ ‬حياتهُ‭ ‬على‭ ‬حياتي؛‭ ‬وأمرني‭ ‬بنزع‭ ‬سلاحي‭ ‬من‭ ‬كتفي‭ ‬لأضعهُ‭ ‬بين‭ ‬يديهِ‭ ‬صاغراً؛‭ ‬ومدينة‭ ‬البصرة‭ ‬غدتْ‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬مئات‭ ‬الأمتار‭ ‬من‭ ‬الإيرانيين‭. ‬أذكر‭ ‬أنَّ‭ ‬عجلة‭ ‬أبطأتْ‭ ‬من‭ ‬سرعتها‭ ‬نتيجة‭ ‬زحام‭ ‬طريق‭ ‬الفرار؛‭ ‬فهجم‭ ‬ثلَّة‭ ‬ضباط‭ ‬وأمروا‭ ‬السائق‭ ‬حتى‭ ‬ينجد‭ ‬ضابطاً‭ ‬جريحاً‭ ‬مازال‭ ‬الدم‭ ‬ينزف‭ ‬من‭ ‬رقبته؛‭ ‬استفهمَ‭ ‬السائق‭ ‬موتوراً‭: ‬

‭- ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬أحملهُ؟

صرخ‭ ‬الآمر‭ ‬بوجههِ‭: ‬

‭- ‬إلى‭ ‬وحدة‭ ‬الميدان‭ ‬الطبيَّة‭.‬

‭- ‬سيدي؛‭ ‬والعبَّاس‭ ‬حتى‭ ‬الأطباء‭ ‬هربوا‭ ‬من‭ ‬كارثة‭ ‬القصف؛‭ ‬ولنْ‭ ‬أجدْ‭ ‬من‭ ‬يسعفهُ‭ ‬هناك‭. ‬

‭- ‬هذا‭ ‬أمر؛‭ ‬وعليكَ‭ ‬تنفيذه‭ ‬على‭ ‬الفور؛‭ ‬فالجريح‭ ‬هو‭ ‬آمر‭ ‬اللواء‮»‬16‮»‬‭. ‬

هبط‭ ‬السائق‭ ‬ليحمل‭ ‬آمر‭ ‬اللواء‭ ‬الذي‭ ‬مازال‭ ‬ينزفُ‭ ‬من‭ ‬عنقهِ‭ ‬ورفعهُ‭ ‬إِلى‭ ‬مقصورة‭ ‬السيارة،‭ ‬وقبل‭ ‬أنْ‭ ‬يبرحنا،‭ ‬مدَّ‭ ‬عنقه‭ ‬من‭ ‬نافذة‭ ‬العجلة‭ ‬ليقولَ‭ ‬يائساً‭: ‬

‭- ‬سيموت‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬يا‭ ‬سيدي‭.‬

ابتعد‭ ‬السائق‭ ‬بعجلتهِ‭ ‬وهو‭ ‬يثرثر‭ ‬مع‭ ‬نفسه‭ ‬كالمخبول؛‭ ‬بينما‭ ‬مكثنا‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬مظلم‭ ‬نجهل‭ ‬موقعه،‭ ‬لزمنا‭ ‬الصمت‭ ‬المطبق؛‭ ‬فلربما‭ ‬العدو‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬أمتار‭ ‬يختفي‭ ‬في‭ ‬حندس‭ ‬الليل،‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬ماذا‭ ‬نفعل؟‭ ‬كأنَّنا‭ ‬ننتظرُ‭ ‬قدوم‭ ‬الجنود‭ ‬الإيرانيين‭ ‬لأسرنا؛‭ ‬فلا‭ ‬دبابات‭ ‬لدينا،‭ ‬ولا‭ ‬عزيمة‭ ‬في‭ ‬صدورنا‭ ‬للقتال؛‭ ‬لكنَّ‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يحدث،‭ ‬لما‭ ‬أطلَّ‭ ‬الفجر،‭ ‬كان‭ ‬الغموض‭ ‬يهيمن‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬المعركة؛‭ ‬هدوء‭ ‬مريب‭ ‬وليس‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬صوت‭ ‬حتى‭ ‬لطلقة‭ ‬بندقية؛‭ ‬كأنَّ‭ ‬هجومهم‭ ‬الكاسح‭ ‬توقَّف‭ ‬عند‭ ‬الليل‭. ‬كُنَّا‭ ‬ننتقلُ‭ ‬على‭ ‬أقدامنا‭ ‬بحذر‭ ‬وخوف‭ ‬وشعور‭ ‬طاغٍ‭ ‬تملَّكنا‭ ‬أنَّ‭ ‬المعركة‭ ‬انتهت‭. ‬تجرَّأً‭ ‬أحد‭ ‬الجنود‭ ‬من‭ ‬إضرام‭ ‬النار‭ ‬في‭ ‬حبَّات‭ ‬الفسفور‭ ‬بمحاولة‭ ‬لصنع‭ ‬الشاي‭ ‬في‭ ‬خوذتهِ؛‭ ‬كان‭ ‬المشهد‭ ‬يثير‭ ‬شفقة‭ ‬حتى‭ ‬الأعداء؛‭ ‬فلقدْ‭ ‬تجمَّع‭ ‬الجنود‭ ‬حول‭ ‬الخوذة‭ ‬التي‭ ‬تشتعلُ‭ ‬تحت‭ ‬معدنها‭ ‬الأخضر‭ ‬أقراص‭ ‬الفسفور،‭ ‬مترقبين‭ ‬غليان‭ ‬الماء‭ ‬بوريقات‭ ‬الشاي‭ ‬المتعفّن،‭ ‬عسى‭ ‬أنْ‭ ‬يحصلوا‭ ‬على‭ ‬رشفة‭ ‬واحدة‭ ‬منهُ؛‭ ‬انبرى‭ ‬بعضهم‭ ‬ليدسَّ‭ ‬خِرقاً‭ ‬في‭ ‬وهج‭ ‬النار؛‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬نكتبُ‭ ‬عليها‭ ‬أسماءنا‭ ‬والعناوين‭ ‬وفصيلة‭ ‬الدم‭ ‬ونضعها‭ ‬بجيوبنا‭ ‬كهوية‭ ‬للتعريف‭ ‬على‭ ‬جثثنا؛‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬أطاحت‭ ‬بنا‭ ‬شظايا‭ ‬القنابل؛‭ ‬فيمكن‭ ‬الاستدلال‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬هوية‭ ‬الجندي؛‭ ‬كنتُ‭ ‬في‭ ‬إجازتي‭ ‬أرى‭ ‬أمي‭ ‬تبكي‭ ‬بحرقةٍ‭ ‬كلما‭ ‬أخرجتْ‭ ‬تلك‭ ‬الخرق‭ ‬البيض‭ ‬من‭ ‬جيوب‭ ‬بذلتي‭ ‬العسكرية؛‭ ‬فتلك‭ ‬الخرق‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬ستعود‭ ‬مني‭ ‬إليها‭ ‬كبرهان‭ ‬على‭ ‬أنَّ‭ ‬الجثة‭ ‬لولدها‭ ‬القتيل‭. ‬كاد‭ ‬الشاي‭ ‬ينضج‭ ‬في‭ ‬الخوذة‭ ‬ومعهُ‭ ‬بدأ‭ ‬القصف‭ ‬العنيف‭ ‬علينا؛‭ ‬تفرقَّنا‭ ‬في‭ ‬حفر‭ ‬ومزاغل‭ ‬مهجورة؛‭ ‬بينما‭ ‬ظلَّ‭ ‬جندي‭ ‬الخوذة‭ ‬صامداً‭ ‬في‭ ‬مكانه‭ ‬ينتظرُ‭ ‬فوران‭ ‬الماء‭ ‬في‭ ‬حفنة‭ ‬الشاي؛‭ ‬كانت‭ ‬القذائف‭ ‬تتساقط‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬أمتار‭ ‬منهُ؛‭ ‬هتفَ‭ ‬كالممسوس‭: ‬

‭- ‬سأشرب‭ ‬الشاي‭ ‬قبل‭ ‬أنْ‭ ‬أموت‭.‬

‭ ‬أطلق‭ ‬كركرة‭ ‬جريحة‭ ‬فجأةً‭ ‬وأخذ‭ ‬يلطمُ‭ ‬على‭ ‬رأسه‭ ‬وهو‭ ‬يشجبنا‭:‬

‭- ‬جبناء؛‭ ‬جبناء؛‭ ‬لقدْ‭ ‬احتلَّوا‭ ‬الفاو؛‭ ‬وبيتي‭ ‬هناك‭.‬

‭ ‬قبل‭ ‬أنْ‭ ‬يتذوَّق‭ ‬الشاي‭ ‬استحالَ‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يقف‭ ‬عليه‭ ‬إِلى‭ ‬نافورة‭ ‬جمر‭ ‬إثر‭ ‬قذيفة‭ ‬سقطتْ‭ ‬بُغتةً؛‭ ‬وهمد‭ ‬صوته‭ ‬إِلى‭ ‬الأبد‭. ‬صرنا‭ ‬نركض‭ ‬بهلع‭ ‬مع‭ ‬جنود‭ ‬المشاة‭ ‬والقصف‭ ‬يطاردنا؛‭ ‬لكن‭ ‬ليس‭ ‬هنالك‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬لجنود‭ ‬إيرانيين‭ ‬يلاحقون‭ ‬هزيمتنا؛‭ ‬لما‭ ‬انتصف‭ ‬النهار،‭ ‬وصلت‭ ‬قوة‭ ‬إسناد‭ ‬مؤلفة‭ ‬من‭ ‬دبابات‭ ‬وناقلات‭ ‬مدرعة‭ ‬إِلى‭ ‬أرض‭ ‬المعركة؛‭ ‬كنتُ‭ ‬أقف‭ ‬مع‭ ‬جندي‭ ‬من‭ ‬أهالي‭ ‬الكوفة‭ ‬على‭ ‬الطريق‭ ‬المؤدي‭ ‬إلى‭ ‬البصرة‭ ‬وطائر‭ ‬الموت‭ ‬يحوم‭ ‬حولنا؛‭ ‬خطفتْ‭ ‬سيارة‭ ‬إسعاف‭ ‬بسرعة،‭ ‬لكنها‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬استدارتْ‭ ‬لتتوقَّف‭ ‬بجوارنا؛‭ ‬فتح‭ ‬السائق‭ ‬بابها‭ ‬الأمامي‭ ‬وصوته‭ ‬يزعق‭: ‬

‭- ‬اركبا‭…‬

‭ ‬صاحبي‭ ‬انغمرَ‭ ‬بعناقٍ‭ ‬مع‭ ‬السائق‭ ‬والدمع‭ ‬ينهمر‭ ‬من‭ ‬عيونهم‭ ‬بلوعةٍ؛‭ ‬كنتُ‭ ‬مذهولاً‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬العناق‭ ‬العنيف‭ ‬والحار؛‭ ‬حينها‭ ‬استدار‭ ‬صاحبي‭ ‬نحوي‭ ‬ليخبرني‭ ‬والدمع‭ ‬مازال‭ ‬نديَّاً‭ ‬في‭ ‬عينيه‭: ‬

‭- ‬هذا‭ ‬أخي‭!‬

لم‭ ‬أتمالك‭ ‬نفسي‭ ‬فهطلت‭ ‬عبراتي،‭ ‬بكيتُ‭ ‬بسعادة؛‭ ‬برغم‭ ‬أنَّ‭ ‬مدينة‭ ‬الفاو‭ ‬أصبحت‭ ‬غنيمة‭ ‬دسمة‭ ‬بفم‭ ‬الإيرانيين‭.‬

حسن‭ ‬النواب



Most Read

2024-09-22 09:33:00