فاجأني آمر كتيبتي حينَ وهبني شربة ماء من زمزميتهِ في تلك الليلة الدامية؛ لمْ أصدّقْ أنَّ أنفاسي مازالت تلهثُ في رئتيَّ تلك اللحظات؛ جرعة الماء تلك أعادتْ الأمل إِلى مزاغل روحي الموحشة؛ لكني اكتشفتُ أنَّ رشقة الماء من الآمر والتي روتْ جفاف دمي لم تكنْ لأجل الله! إذْ أمرني بمنحهِ بندقيتي التي كنتُ أحملها على كتفي؛ يبدو أنَّ الآمر تركَ دبابته لباعثٍ أجهلهُ ولم يتمكَّن من إنقاذ سلاحهُ معه؛ تساءلتُ مرتبكاً:
- سيدي؛ وهل أبقى بلا بندقية؟
- سأعيدها إليك عندما ينبلج الفجر.
ربما يظنُّ البعض أنَّ ما جرى مع الآمر في تلك الدقائق العصيبة ضربٌ من الخيال؛ لكنَّ وقائع تلك المعركة الضارية، جعلتْ جميع الضبَّاط بوجوهٍ واجمةٍ ويأسٍ وقلقٍ وارتباكٍ وفقدوا السيطرة على زمام المعركة، لقدْ اختلط الحابل بالنابل؛ كان منتظراً أنَّ العدو سيفاجئكَ على حين غرَّةٍ ويطلق عليك الرصاص؛ ولذا كان الجنود في تلك اللحظات الحرجة بحاجةٍ إِلى سلاحٍ يدافعونَ بهِ عن حياتهم وذلك أضعف الإيمان؛ إزاء هذه المعادلة رجَّحً الآمر حياتهُ على حياتي؛ وأمرني بنزع سلاحي من كتفي لأضعهُ بين يديهِ صاغراً؛ ومدينة البصرة غدتْ على بعد مئات الأمتار من الإيرانيين. أذكر أنَّ عجلة أبطأتْ من سرعتها نتيجة زحام طريق الفرار؛ فهجم ثلَّة ضباط وأمروا السائق حتى ينجد ضابطاً جريحاً مازال الدم ينزف من رقبته؛ استفهمَ السائق موتوراً:
- إلى أين أحملهُ؟
صرخ الآمر بوجههِ:
- إلى وحدة الميدان الطبيَّة.
- سيدي؛ والعبَّاس حتى الأطباء هربوا من كارثة القصف؛ ولنْ أجدْ من يسعفهُ هناك.
- هذا أمر؛ وعليكَ تنفيذه على الفور؛ فالجريح هو آمر اللواء»16».
هبط السائق ليحمل آمر اللواء الذي مازال ينزفُ من عنقهِ ورفعهُ إِلى مقصورة السيارة، وقبل أنْ يبرحنا، مدَّ عنقه من نافذة العجلة ليقولَ يائساً:
- سيموت في الطريق يا سيدي.
ابتعد السائق بعجلتهِ وهو يثرثر مع نفسه كالمخبول؛ بينما مكثنا في مكان مظلم نجهل موقعه، لزمنا الصمت المطبق؛ فلربما العدو على بعد أمتار يختفي في حندس الليل، لا نعرف ماذا نفعل؟ كأنَّنا ننتظرُ قدوم الجنود الإيرانيين لأسرنا؛ فلا دبابات لدينا، ولا عزيمة في صدورنا للقتال؛ لكنَّ ذلك لم يحدث، لما أطلَّ الفجر، كان الغموض يهيمن على أرض المعركة؛ هدوء مريب وليس هناك من صوت حتى لطلقة بندقية؛ كأنَّ هجومهم الكاسح توقَّف عند الليل. كُنَّا ننتقلُ على أقدامنا بحذر وخوف وشعور طاغٍ تملَّكنا أنَّ المعركة انتهت. تجرَّأً أحد الجنود من إضرام النار في حبَّات الفسفور بمحاولة لصنع الشاي في خوذتهِ؛ كان المشهد يثير شفقة حتى الأعداء؛ فلقدْ تجمَّع الجنود حول الخوذة التي تشتعلُ تحت معدنها الأخضر أقراص الفسفور، مترقبين غليان الماء بوريقات الشاي المتعفّن، عسى أنْ يحصلوا على رشفة واحدة منهُ؛ انبرى بعضهم ليدسَّ خِرقاً في وهج النار؛ تلك التي نكتبُ عليها أسماءنا والعناوين وفصيلة الدم ونضعها بجيوبنا كهوية للتعريف على جثثنا؛ إذا ما أطاحت بنا شظايا القنابل؛ فيمكن الاستدلال منها على هوية الجندي؛ كنتُ في إجازتي أرى أمي تبكي بحرقةٍ كلما أخرجتْ تلك الخرق البيض من جيوب بذلتي العسكرية؛ فتلك الخرق هي التي ستعود مني إليها كبرهان على أنَّ الجثة لولدها القتيل. كاد الشاي ينضج في الخوذة ومعهُ بدأ القصف العنيف علينا؛ تفرقَّنا في حفر ومزاغل مهجورة؛ بينما ظلَّ جندي الخوذة صامداً في مكانه ينتظرُ فوران الماء في حفنة الشاي؛ كانت القذائف تتساقط على بعد أمتار منهُ؛ هتفَ كالممسوس:
- سأشرب الشاي قبل أنْ أموت.
أطلق كركرة جريحة فجأةً وأخذ يلطمُ على رأسه وهو يشجبنا:
- جبناء؛ جبناء؛ لقدْ احتلَّوا الفاو؛ وبيتي هناك.
قبل أنْ يتذوَّق الشاي استحالَ المكان الذي يقف عليه إِلى نافورة جمر إثر قذيفة سقطتْ بُغتةً؛ وهمد صوته إِلى الأبد. صرنا نركض بهلع مع جنود المشاة والقصف يطاردنا؛ لكن ليس هنالك من أثر لجنود إيرانيين يلاحقون هزيمتنا؛ لما انتصف النهار، وصلت قوة إسناد مؤلفة من دبابات وناقلات مدرعة إِلى أرض المعركة؛ كنتُ أقف مع جندي من أهالي الكوفة على الطريق المؤدي إلى البصرة وطائر الموت يحوم حولنا؛ خطفتْ سيارة إسعاف بسرعة، لكنها سرعان ما استدارتْ لتتوقَّف بجوارنا؛ فتح السائق بابها الأمامي وصوته يزعق:
- اركبا…
صاحبي انغمرَ بعناقٍ مع السائق والدمع ينهمر من عيونهم بلوعةٍ؛ كنتُ مذهولاً من هذا العناق العنيف والحار؛ حينها استدار صاحبي نحوي ليخبرني والدمع مازال نديَّاً في عينيه:
- هذا أخي!
لم أتمالك نفسي فهطلت عبراتي، بكيتُ بسعادة؛ برغم أنَّ مدينة الفاو أصبحت غنيمة دسمة بفم الإيرانيين.
حسن النواب
2024-09-22 09:33:00