Breaking News >> News >> Azzaman


هجوم الظمأ (45)-حسن النواب


Link [2022-03-21 03:12:16]



استولى‭ ‬علينا‭ ‬الرعب‭ ‬واستبدَّ‭ ‬بعروقنا‭ ‬الظمأ؛‭ ‬فأيَّةُ‭ ‬ميتةٍ‭ ‬بشعةٍ‭ ‬تتربَّصُ‭ ‬بنا‭ ‬هذه‭ ‬الليلة؛‭ ‬ما‭ ‬أحوجنا‭ ‬إلى‭ ‬جرعةِ‭ ‬ماءٍ؛‭ ‬الإمدادات‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬أثر؛‭ ‬ولكي‭ ‬نطفئ‭ ‬عطشنا؛‭ ‬لجأنا‭ ‬إلى‭ ‬ماء‭ ‬‮«‬راديتر‮»‬‭ ‬الدبابة؛‭ ‬فهي‭ ‬تسع‭ ‬إِلى‭ ‬ثمانين‭ ‬لتراً‭ ‬من‭ ‬الماء‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬صدئا‭. ‬شربنا‭ ‬منهُ‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬نموت‭ ‬من‭ ‬العطش‭. ‬بعد‭ ‬ساعاتٍ‭ ‬يائسةٍ‭ ‬من‭ ‬الترقُّب‭ ‬لاحتْ‭ ‬على‭ ‬الشارع‭ ‬عجلة‭ ‬الإسقاء؛‭ ‬هرعَ‭ ‬جنود‭ ‬المشاة‭ ‬نحوها‭ ‬لإطفاء‭ ‬ظمأهم؛‭ ‬كانت‭ ‬عجلة‭ ‬الإسقاء‭ ‬تابعة‭ ‬لكتيبتنا،‭ ‬دبابات‭ ‬إشبيلية،‭ ‬اصطفَ‭ ‬الجنود‭ ‬في‭ ‬طابورٍ‭ ‬طويلٍ‭ ‬أملاً‭ ‬بالحصول‭ ‬على‭ ‬شربةِ‭ ‬ماءٍ‭ ‬حتى‭ ‬نفدَ‭ ‬صبرهم؛‭ ‬دخلوا‭ ‬بنزاعٍ‭ ‬مُهلكٍ‭ ‬مع‭ ‬سائق‭ ‬عجلة‭ ‬الإسقاء‭ ‬الذي‭ ‬أبى‭ ‬توزيع‭ ‬الماء‭ ‬إلاَّ‭ ‬بحضور‭ ‬الآمر؛‭ ‬كان‭ ‬السائق‭ ‬البصري‭ ‬ثملاً‭ ‬للغاية؛‭ ‬وهو‭ ‬يلعنُ‭ ‬من‭ ‬قتل‭ ‬الإمام‭ ‬الحسين‭ ‬بين‭ ‬لحظة‭ ‬وأخرى؛‭ ‬حتى‭ ‬وصل‭ ‬أحد‭ ‬الضباط‭ ‬الشُبَّان‭ ‬للإشراف‭ ‬على‭ ‬توزيع‭ ‬الماء،‭ ‬أمرَ‭ ‬السائق‭ ‬بالمثول‭ ‬أمامه،‭ ‬أجابه‭ ‬البصري‭ ‬بعفطةِ‭ ‬احتقارٍ‭ ‬خرجتْ‭ ‬من‭ ‬فمهِ‭ ‬صاخبةً‭ ‬ثمَّ‭ ‬زمجرَ‭ ‬والثمالة‭ ‬تلغطُ‭ ‬برأسه‭:‬

‭- ‬أغربْ‭ ‬عن‭ ‬وجهي‭ ‬يا‭ ‬ولد؛‭ ‬وإلاّ‭ ‬أدفنكَ‭ ‬بهذه‭ ‬السبخة‭. ‬

أيَّةُ‭ ‬أرض‭ ‬كالحة‭ ‬كانت؛‭ ‬فهي‭ ‬مزيج‭ ‬من‭ ‬الملح‭ ‬والتراب‭ ‬المر‭ ‬الممزوج‭ ‬بالشظايا،‭ ‬أضافتْ‭ ‬الأمطار‭ ‬لأديمها‭ ‬لزوجة؛‭ ‬ضحكَ‭ ‬بعض‭ ‬الجنود‭ ‬برغم‭ ‬عطشهم؛‭ ‬اشتعل‭ ‬وجه‭ ‬الضابط‭ ‬من‭ ‬الحرج‭ ‬وانصرف‭ ‬يغلي‭ ‬غضباً‭ ‬بسبب‭ ‬الإهانة‭ ‬الوقحة‭ ‬التي‭ ‬تلقاها‭ ‬من‭ ‬سائق‭ ‬عجلة‭ ‬الإسقاء‭.  ‬ماهي‭ ‬إلاَّ‭ ‬دقائق‭ ‬حتى‭ ‬أقبلَ‭ ‬جنود‭ ‬حماية‭ ‬الآمر؛‭ ‬أنزلوا‭ ‬الجندي‭ ‬البصري‭ ‬قسراً‭ ‬من‭ ‬خلف‭ ‬المقود‭ ‬وحملوهُ‭ ‬على‭ ‬الأكتاف‭ ‬إِلى‭ ‬آمرهم؛‭ ‬بينما‭ ‬هجمَ‭ ‬الجنود‭ ‬على‭ ‬خرطوم‭ ‬الماء‭ ‬الذي‭ ‬صار‭ ‬يتدفَّقُ‭ ‬من‭ ‬حوض‭ ‬عجلة‭ ‬الإسقاء‭ ‬إِلى‭ ‬الأرض‭ ‬الصهباء‭. ‬ارتوى‭ ‬جميع‭ ‬الجنود؛‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬سائقها‭ ‬يزحف‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬الموحلة‭ ‬بعقوبةٍ‭ ‬مُذلَّةٍ‭ ‬نتيجة‭ ‬تجاوزه‭ ‬على‭ ‬الضابط‭ ‬الغر؛‭ ‬لقدْ‭ ‬تجاهلَ‭ ‬الآمر‭ ‬شهامة‭ ‬هذا‭ ‬السائق‭ ‬الذي‭ ‬خاطر‭ ‬بحياته‭ ‬وسط‭ ‬هذا‭ ‬الجحيم‭ ‬حتى‭ ‬يجلب‭ ‬الماء‭ ‬لحشود‭ ‬الجنود‭ ‬الذي‭ ‬كاد‭ ‬يفتكُ‭ ‬بهم‭ ‬الظمأ؛‭ ‬أية‭ ‬قسمة‭ ‬ضيزى‭ ‬هذه‭ ‬التي‭ ‬تجتهد‭ ‬بها‭ ‬الحرب‭ ‬المعطوبة‭ ‬أصلا؛‭ ‬ظلَّ‭ ‬سائق‭ ‬عجلة‭ ‬الإسقاء‭ ‬يتمرَّغ‭ ‬في‭ ‬الوحل‭ ‬لساعات‭ ‬والقنابل‭ ‬تتساقط‭ ‬إِلى‭ ‬جنبه؛‭ ‬لما‭ ‬تحرَّر‭ ‬من‭ ‬عقوبة‭ ‬الآمر؛‭ ‬عاد‭ ‬إِلى‭ ‬عجلتهِ‭ ‬يتطوَّحُ‭ ‬من‭ ‬الأسى؛‭ ‬انطلقَ‭ ‬بها‭ ‬بسرعةٍ‭ ‬جنونيةٍ‭ ‬ليس‭ ‬صوب‭ ‬البصرة؛‭ ‬إنَّما‭ ‬صوب‭ ‬الفاو‭ ‬المحتلة‭ ‬حيث‭ ‬الإيرانيين‭ ‬هناك‭! ‬بعد‭ ‬فرار‭ ‬سائق‭ ‬عجلة‭ ‬الإسقاء؛‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬ليلتين‭ ‬لم‭ ‬تصل‭ ‬أية‭ ‬إمدادات‭ ‬أخرى؛‭ ‬حينها‭ ‬أيقنَ‭ ‬الآمر‭ ‬في‭ ‬سريرتهِ،‭ ‬كم‭ ‬كان‭ ‬شجاعاً‭ ‬ذلك‭ ‬السائق‭ ‬الذي‭ ‬تمكَّنَ‭ ‬من‭ ‬إيصال‭ ‬عجلته‭ ‬تحت‭ ‬القصف‭ ‬الكثيف‭ ‬إلى‭ ‬مواضعنا؛‭ ‬لقد‭ ‬أخبرنا‭ ‬بفخرٍ‭ ‬قبل‭ ‬أنْ‭ ‬يأخذه‭ ‬جنود‭ ‬الحماية‭ ‬ويتلقَّى‭ ‬قصاصاً‭ ‬قاسياً‭:‬

‭- ‬وحق‭ ‬ظمأ‭ ‬الحسين؛‭ ‬عجلات‭ ‬الإسقاء‭ ‬بالمئات‭ ‬في‭ ‬الخلفيات‭ ‬ومليئة‭ ‬بالماء؛‭ ‬لكنَّ‭ ‬الجميع‭ ‬يخاف‭ ‬من‭ ‬القصف؛‭ ‬أنا‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬هنا؛‭ ‬ولولا‭ ‬‮«‬الزحلاوي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كرعتهُ‭ ‬لما‭ ‬شربتم‭ ‬الماء؛‭ ‬قلتُ‭ ‬إنَّ‭ ‬أخواني‭ ‬سيقتلهم‭ ‬العطش‭.‬

ها‭ ‬نحنُ‭ ‬نحاصر‭ ‬بالظمأ‭ ‬والجوع‭ ‬مرَّة‭ ‬أخرى؛‭ ‬أين‭ ‬نعثر‭ ‬على‭ ‬منْ‭ ‬يشبه‭ ‬ذلك‭ ‬السائق‭ ‬البصري‭ ‬ويسقينا‭ ‬الماء‭ ‬أو‭ ‬حفنة‭ ‬رز؛‭ ‬بعض‭ ‬الجنود‭ ‬من‭ ‬بلوى‭ ‬الجوع‭ ‬تقدموا‭ ‬إِلى‭ ‬أرض‭ ‬الحرام‭ ‬وهي‭ ‬المنطقة‭ ‬الخطرة‭ ‬جدا‭ ‬والتي‭ ‬تفصلنا‭ ‬عن‭ ‬العدو؛‭ ‬راحوا‭ ‬ينبشونَ‭ ‬في‭ ‬جيوب‭ ‬ملابس‭ ‬جثث‭ ‬القتلى‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬كسرة‭ ‬خبز‭ ‬أو‭ ‬يعثرون‭ ‬على‭ ‬بقايا‭ ‬ماء‭ ‬في‭ ‬زمزمياتهم‭ ‬الملطخة‭ ‬بالدماء‭. ‬أقبل‭ ‬أحد‭ ‬الجنود‭ ‬فرحاً‭ ‬وهو‭ ‬يلوّح‭ ‬بصمونة‭ ‬مصبوغة‭ ‬بالدم‭ ‬اليابس؛‭ ‬فرك‭ ‬الدم‭ ‬عن‭ ‬جلدها‭ ‬وأخذ‭ ‬يمضغ‭ ‬قطعة‭ ‬منها‭ ‬ثمَّ‭ ‬ابتلعها‭ ‬بصعوبةٍ‭ ‬إِلى‭ ‬معدته‭ ‬الخاوية؛‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تقيأ؛‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬الحرب؛‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬البعض‭ ‬يكتب‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬مكتبه‭ ‬الوثير‭ ‬بمتعةٍ‭ ‬قصوى‭. ‬هبط‭ ‬الليل‭ ‬والجوع‭ ‬مثل‭ ‬أسياخ‭ ‬ملتهبة‭ ‬تغوص‭ ‬في‭ ‬معدتي؛‭ ‬لم‭ ‬أذق‭ ‬الطعام‭ ‬منذ‭ ‬ليلتين؛‭ ‬نفدت‭ ‬الأرزاق‭ ‬الجافة؛‭ ‬وجليكانات‭ ‬الماء‭ ‬مملوءة‭ ‬بدخان‭ ‬القنابل‭ ‬ليس‭ ‬إلاَّ؛‭ ‬تمنيتُ‭ ‬الموت‭ ‬ساعتها؛‭ ‬فالجوع‭ ‬والعطش‭ ‬يمنعان‭ ‬عن‭ ‬عيني‭ ‬النوم؛‭ ‬أريد‭ ‬أنْ‭ ‬أغفو؛‭ ‬لكن‭ ‬عزيمتي‭ ‬خذلتني؛‭ ‬أخيراً‭ ‬حرَّرتُ‭ ‬مسند‭ ‬مقعدي‭ ‬لأهمد‭ ‬قليلاً؛‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬كم‭ ‬استغرقت‭ ‬بغفوتي‭ ‬حتى‭ ‬رفسني‭ ‬آمر‭ ‬الدبابة‭ ‬بجزمته‭ ‬صائحا‭ ‬بهلع‭: ‬

‭- ‬لقد‭ ‬هجموا‭ ‬علينا‭.. ‬تحرَّك‭.. ‬تحرَّك‭..‬

أفقتُ‭ ‬كالمعتوه؛‭ ‬ارتطم‭ ‬رأسي‭ ‬بفولاذ‭ ‬الدبابة؛‭ ‬أخرجتُ‭ ‬رأسي‭ ‬من‭ ‬فتحة‭ ‬غرفة‭ ‬السائق؛‭ ‬وإذا‭ ‬بالليل‭ ‬قدْ‭ ‬تحوَّل‭ ‬إِلى‭ ‬جهنَّمٍ‭ ‬مريعٍ؛‭ ‬النيران‭ ‬تضطرم‭ ‬بالدبابات؛‭ ‬وجنود‭ ‬المشاة‭ ‬يستغيثونَ‭ ‬هلعاً؛‭ ‬تمكَّنتُ‭ ‬من‭ ‬تشغيل‭ ‬الدبابة‭ ‬والتراجع‭ ‬بها‭ ‬إِلى‭ ‬الوراء؛‭ ‬بالوقت‭ ‬الذي‭ ‬فتح‭ ‬الرامي‭ ‬زر‭ ‬التنشير‭ ‬الكهربائي‭ ‬بمحاولة‭ ‬منه‭ ‬لتدوير‭ ‬المدفع‭ ‬على‭ ‬جبهة‭ ‬القتال؛‭ ‬مع‭ ‬استدارتي‭ ‬توهَّج‭ ‬لهبٌ‭ ‬أصفر‭ ‬أمام‭ ‬عيني؛‭ ‬لفحَ‭ ‬وجهي‭ ‬مع‭ ‬عصف‭ ‬عنيف؛‭ ‬احترقتْ‭ ‬رموش‭ ‬عينيَّ‭ ‬وشاربي‭ ‬أيضاً؛‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬أخبرني‭ ‬به‭ ‬الجنود‭ ‬فجراً؛‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬همدتْ‭ ‬الدبابة‭ ‬دون‭ ‬حراك؛‭ ‬حاولت‭ ‬تشغيلها‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬دون‭ ‬جدوى؛‭ ‬تركتُ‭ ‬الدبابة‭ ‬بعد‭ ‬انتشال‭ ‬بندقيتي‭ ‬من‭ ‬غرفة‭ ‬السائق؛‭ ‬هرعتُ‭ ‬أعدو‭ ‬في‭ ‬الظلام‭ ‬دون‭ ‬هدى؛‭ ‬صادفت‭ ‬دبابة‭ ‬تتراجع‭ ‬ببطء‭ ‬فنططتُ‭ ‬عليها؛‭ ‬كاد‭ ‬أحد‭ ‬أفرادها‭ ‬أنْ‭ ‬يقتلني‭ ‬برشقة‭ ‬رصاص؛‭ ‬لكنه‭ ‬عرفني‭ ‬من‭ ‬صوتي؛‭ ‬بعد‭ ‬أنْ‭ ‬نطقتُ‭ ‬باسمي؛‭ ‬حشرتُ‭ ‬جسدي‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬المخابر‭ ‬والهلع‭ ‬يهيمن‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حواسي؛‭ ‬كنتُ‭ ‬أسمع‭ ‬نحيب‭ ‬الجنود‭ ‬الجرحى‭ ‬الذي‭ ‬تناثروا‭ ‬في‭ ‬أرضٍ‭ ‬دهماء؛‭ ‬ظلَّ‭ ‬محرّك‭ ‬الدبابة‭ ‬يجعرُ‭ ‬لساعةٍ‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬مثل‭ ‬ثورٍ‭ ‬على‭ ‬رقبتهِ‭ ‬مِدْية‭ ‬جزَّار؛‭ ‬حتى‭ ‬دعاني‭ ‬أحد‭ ‬جنود‭ ‬طاقمها‭ ‬للخروج؛‭ ‬أصبحتُ‭ ‬فوق‭ ‬الدبابة‭ ‬وإذا‭ ‬بالفجر‭ ‬يزحف‭ ‬وئيداً‭ ‬على‭ ‬عباءة‭ ‬الموت‭ ‬المظلمة‭ ‬بسنا‭ ‬نوره‭ ‬الأرجواني؛‭ ‬كأنَّ‭ ‬معركة‭ ‬دامية‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬أفق‭ ‬السماء‭. ‬القصف‭ ‬هدأ‭ ‬قليلاً،‭ ‬لكنْ‭ ‬من‭ ‬يمنحني‭ ‬قطرة‭ ‬ماء‭ ‬الآن‭ ‬كي‭ ‬استمر‭ ‬بالحياة‭.. ‬من؟

حسن‭ ‬النواب



Most Read

2024-09-22 19:28:12