استولى علينا الرعب واستبدَّ بعروقنا الظمأ؛ فأيَّةُ ميتةٍ بشعةٍ تتربَّصُ بنا هذه الليلة؛ ما أحوجنا إلى جرعةِ ماءٍ؛ الإمدادات ليس لها أثر؛ ولكي نطفئ عطشنا؛ لجأنا إلى ماء «راديتر» الدبابة؛ فهي تسع إِلى ثمانين لتراً من الماء الذي كان صدئا. شربنا منهُ حتى لا نموت من العطش. بعد ساعاتٍ يائسةٍ من الترقُّب لاحتْ على الشارع عجلة الإسقاء؛ هرعَ جنود المشاة نحوها لإطفاء ظمأهم؛ كانت عجلة الإسقاء تابعة لكتيبتنا، دبابات إشبيلية، اصطفَ الجنود في طابورٍ طويلٍ أملاً بالحصول على شربةِ ماءٍ حتى نفدَ صبرهم؛ دخلوا بنزاعٍ مُهلكٍ مع سائق عجلة الإسقاء الذي أبى توزيع الماء إلاَّ بحضور الآمر؛ كان السائق البصري ثملاً للغاية؛ وهو يلعنُ من قتل الإمام الحسين بين لحظة وأخرى؛ حتى وصل أحد الضباط الشُبَّان للإشراف على توزيع الماء، أمرَ السائق بالمثول أمامه، أجابه البصري بعفطةِ احتقارٍ خرجتْ من فمهِ صاخبةً ثمَّ زمجرَ والثمالة تلغطُ برأسه:
- أغربْ عن وجهي يا ولد؛ وإلاّ أدفنكَ بهذه السبخة.
أيَّةُ أرض كالحة كانت؛ فهي مزيج من الملح والتراب المر الممزوج بالشظايا، أضافتْ الأمطار لأديمها لزوجة؛ ضحكَ بعض الجنود برغم عطشهم؛ اشتعل وجه الضابط من الحرج وانصرف يغلي غضباً بسبب الإهانة الوقحة التي تلقاها من سائق عجلة الإسقاء. ماهي إلاَّ دقائق حتى أقبلَ جنود حماية الآمر؛ أنزلوا الجندي البصري قسراً من خلف المقود وحملوهُ على الأكتاف إِلى آمرهم؛ بينما هجمَ الجنود على خرطوم الماء الذي صار يتدفَّقُ من حوض عجلة الإسقاء إِلى الأرض الصهباء. ارتوى جميع الجنود؛ بينما كان سائقها يزحف على الأرض الموحلة بعقوبةٍ مُذلَّةٍ نتيجة تجاوزه على الضابط الغر؛ لقدْ تجاهلَ الآمر شهامة هذا السائق الذي خاطر بحياته وسط هذا الجحيم حتى يجلب الماء لحشود الجنود الذي كاد يفتكُ بهم الظمأ؛ أية قسمة ضيزى هذه التي تجتهد بها الحرب المعطوبة أصلا؛ ظلَّ سائق عجلة الإسقاء يتمرَّغ في الوحل لساعات والقنابل تتساقط إِلى جنبه؛ لما تحرَّر من عقوبة الآمر؛ عاد إِلى عجلتهِ يتطوَّحُ من الأسى؛ انطلقَ بها بسرعةٍ جنونيةٍ ليس صوب البصرة؛ إنَّما صوب الفاو المحتلة حيث الإيرانيين هناك! بعد فرار سائق عجلة الإسقاء؛ على مدى ليلتين لم تصل أية إمدادات أخرى؛ حينها أيقنَ الآمر في سريرتهِ، كم كان شجاعاً ذلك السائق الذي تمكَّنَ من إيصال عجلته تحت القصف الكثيف إلى مواضعنا؛ لقد أخبرنا بفخرٍ قبل أنْ يأخذه جنود الحماية ويتلقَّى قصاصاً قاسياً:
- وحق ظمأ الحسين؛ عجلات الإسقاء بالمئات في الخلفيات ومليئة بالماء؛ لكنَّ الجميع يخاف من القصف؛ أنا الوحيد الذي وصل إلى هنا؛ ولولا «الزحلاوي» الذي كرعتهُ لما شربتم الماء؛ قلتُ إنَّ أخواني سيقتلهم العطش.
ها نحنُ نحاصر بالظمأ والجوع مرَّة أخرى؛ أين نعثر على منْ يشبه ذلك السائق البصري ويسقينا الماء أو حفنة رز؛ بعض الجنود من بلوى الجوع تقدموا إِلى أرض الحرام وهي المنطقة الخطرة جدا والتي تفصلنا عن العدو؛ راحوا ينبشونَ في جيوب ملابس جثث القتلى بحثاً عن كسرة خبز أو يعثرون على بقايا ماء في زمزمياتهم الملطخة بالدماء. أقبل أحد الجنود فرحاً وهو يلوّح بصمونة مصبوغة بالدم اليابس؛ فرك الدم عن جلدها وأخذ يمضغ قطعة منها ثمَّ ابتلعها بصعوبةٍ إِلى معدته الخاوية؛ سرعان ما تقيأ؛ هذه هي الحرب؛ التي كان البعض يكتب عنها من مكتبه الوثير بمتعةٍ قصوى. هبط الليل والجوع مثل أسياخ ملتهبة تغوص في معدتي؛ لم أذق الطعام منذ ليلتين؛ نفدت الأرزاق الجافة؛ وجليكانات الماء مملوءة بدخان القنابل ليس إلاَّ؛ تمنيتُ الموت ساعتها؛ فالجوع والعطش يمنعان عن عيني النوم؛ أريد أنْ أغفو؛ لكن عزيمتي خذلتني؛ أخيراً حرَّرتُ مسند مقعدي لأهمد قليلاً؛ لا أدري كم استغرقت بغفوتي حتى رفسني آمر الدبابة بجزمته صائحا بهلع:
- لقد هجموا علينا.. تحرَّك.. تحرَّك..
أفقتُ كالمعتوه؛ ارتطم رأسي بفولاذ الدبابة؛ أخرجتُ رأسي من فتحة غرفة السائق؛ وإذا بالليل قدْ تحوَّل إِلى جهنَّمٍ مريعٍ؛ النيران تضطرم بالدبابات؛ وجنود المشاة يستغيثونَ هلعاً؛ تمكَّنتُ من تشغيل الدبابة والتراجع بها إِلى الوراء؛ بالوقت الذي فتح الرامي زر التنشير الكهربائي بمحاولة منه لتدوير المدفع على جبهة القتال؛ مع استدارتي توهَّج لهبٌ أصفر أمام عيني؛ لفحَ وجهي مع عصف عنيف؛ احترقتْ رموش عينيَّ وشاربي أيضاً؛ هذا ما أخبرني به الجنود فجراً؛ في حين همدتْ الدبابة دون حراك؛ حاولت تشغيلها من جديد دون جدوى؛ تركتُ الدبابة بعد انتشال بندقيتي من غرفة السائق؛ هرعتُ أعدو في الظلام دون هدى؛ صادفت دبابة تتراجع ببطء فنططتُ عليها؛ كاد أحد أفرادها أنْ يقتلني برشقة رصاص؛ لكنه عرفني من صوتي؛ بعد أنْ نطقتُ باسمي؛ حشرتُ جسدي في غرفة المخابر والهلع يهيمن على كل حواسي؛ كنتُ أسمع نحيب الجنود الجرحى الذي تناثروا في أرضٍ دهماء؛ ظلَّ محرّك الدبابة يجعرُ لساعةٍ من الوقت مثل ثورٍ على رقبتهِ مِدْية جزَّار؛ حتى دعاني أحد جنود طاقمها للخروج؛ أصبحتُ فوق الدبابة وإذا بالفجر يزحف وئيداً على عباءة الموت المظلمة بسنا نوره الأرجواني؛ كأنَّ معركة دامية أخرى في أفق السماء. القصف هدأ قليلاً، لكنْ من يمنحني قطرة ماء الآن كي استمر بالحياة.. من؟
حسن النواب
2024-09-22 19:28:12