خلف الساتر الواطئ اختبأتْ الدبابات التي نجتْ من نيران القاذفات لدقائق؛ ولكنْ أيَّة دقائقٍ حرجةٍ ومسعورة ٍكانت؛ لقد تحوَّلَ ساتر المعركة إلى مسلخٍ للقرابين؛ كان الدمُ يراقُ من جراح الجنود مختلطاً باستغاثتهم؛ يصرخونَ بلا رجاءٍ ثمَّ يهمدونَ بنومةٍ أبدية على التراب. رفعتُ رأسي برهةً لألمح معظم الدبابات تشتعل النار في أبراجها؛ كيف تكون الهزيمة إذن؟ صحيح أنَّ رامي دبابتي تمكَّنَ من إطلاق قذيفة واحدة؛ لكن من شدَّةِ ارتباكهِ سقطتْ على منطقة بعيدة عن الأهداف؛ بينما الجنود الإيرانيين أراهم يتقافزون من ساترٍ إِلى آخر أمام عيني وعلى أكتافهم القاذفات؛ اشتعلتْ دبابة بجوار دبابتي وتناهى لي صريخ طاقمها؛ حين اشرأببتُ بعنقي من غرفة السائق لأستجليَ ما جرى لهم، أصابني الذعر؛ أبصرتُ مخابرها يحاول انتشال آمره من قبَّة الرصد؛ النقيب المصلاوي الطيِّب مدَّرس اللغة العربية الذي انخرط في خدمة الاحتياط مجبراً؛ النيران تلتهبُ بجُثَّتهِ؛ حانتْ نظرة منّي إِلى ساترٍ أمامنا، تهدَّجَ كياني؛ حين رأيتُ أحد الجنود الإيرانيين يلقمُ فوهة القاذفة صاروخاً ليسدِّده نحو الدبابة المحترقة؛ كان الجندي الإيراني على بعد لا يتخطَّى المئة متر وقدْ ثبَّتَ القاذفة على كتفهِ لإطلاق الصاروخ؛ فما كان مني إلاَّ الهتاف عليهِ مُستغيثاً والدمع يسيحُ من عيني؛ وأنا أهزُّ يدي بقطعة قماش زرقاء قذرة كنتُ أجفّفُ بها نضح الوقود بين حين وآخر:
- لا، نو، لا؛ ناء.. نو.. ناء؛ لا..
اختلط هتافي بين مفرداتٍ إنجليزية وعربية وفارسية؛ وإذا بالجندي الإيراني يتعاطف مع استغاثتي؛ أنزلَ القاذفة من فوقَ كتفهِ وتراجع إِلى الخلف وعلى وجههِ ابتسامة ظفر؛ ليختفي خلف الساتر؛ بينما تمكَّن مخابر الدبابة المحترقة من رفع جُثَّة النقيب المتفحمة ليقذف بها إِلى الأرض المستعرة بالجحيم هي الأخرى؛ سمعتُ صوت آمر دبابتي عبر قلنسوتي يدعوني إِلى الانسحاب على الفور؛ تراجعتُ بالدبابة إِلى الخلف عشرات الأمتار لأستدير بها بعد ذلك نحو الطريق الأسفلتي؛ فوجئتُ بدبابتين رابضتين أمامي تعترض درب نجاتي من المذبحة؛ استفهمتُ من طاقم أحدى الدبابتين عمَّا يحول دون انطلاقهما نحو شارع الهزيمة؛ أخبرني أحدهم بوجود عجلة أورال محمَّلة بالعتاد تحترقُ بضراوةٍ وتعترض السبيل؛ انحرفتُ بدبابتي عن مسار الدبابتين بقرارٍ حاسمٍ مني؛ لأنطلق صوبَ عجلة الأورال التي تحوَّلت إلى كتلة هائلة من النار؛ أزحتها بمقدَّمة دبابتي عن الطريق ورائحة شواء لحم الجنود الذين يشتعلونَ فيها كادتْ تفقدني عزيمتي؛ فقد ملأ القيء ملابسي وأنا أصعد بالدبَّابة إلى طريق النجاة وكنتُ أول المندحرين من المعركة. وصلنا إِلى ساترٍ ترابي شُيَّدَ على عجلٍ؛ مكثنا خلفهُ طوال الليل؛ عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل؛ هجمتْ حضيرة مشاة إيرانية علينا بغتةً؛ مستثمرة الظلام الدامس الذي كان يخيّمُ على المكان؛ اشتعلتْ النيران بدبَّابة صديقي الملازم أول سعد من أهالي البصرة؛ كانت تربطني بهِ علاقة وطيدة؛ فهو يكتب الشعر مثلي؛ من حسن الحظ أنَّ حضيرة الغدر اختفتْ؛ بعد إصابتها لدبابة صديقي؛ في حين اشتدَّ القصف من جهة اليسار حيثُ رأس البيشة؛ ظلَّ القصف حتى طلائع الفجر؛ لما أشرقتْ الشمس جاء أحد الضباط حاملاً بيده «يطغان» بقبضة بلاستيكية بيضاء صلدة، و»اليطغان» آلة حادة تشبه السيف لكن هامتها تكون بنصف هرم؛ أخبرنا بنبرةٍ متعبة ومرتبكة:
- مَنْ يصدِّق أنَّهم يحاربوننا بهذه الأسلحة؟
- أين وجدتهُ سيدي؟
- لقدْ تركتهُ الحضيرة التي أصابتْ دبابة الملازم أول سعد ليلة أمس.
- وهل هو بخير؟
- احترقَ وجهه ويديه وأخليَ إلى الخطوط الخلفية.
هطلتْ دمعة منكسرة من عيني؛ واختنقَ صدري بهمومٍ داميةٍ.
حسن النواب
2024-09-23 03:20:37