Breaking News >> News >> Azzaman


جُندي إيراني (44)-حسن النواب


Link [2022-03-14 08:41:03]



خلف‭ ‬الساتر‭ ‬الواطئ‭ ‬اختبأتْ‭ ‬الدبابات‭ ‬التي‭ ‬نجتْ‭ ‬من‭ ‬نيران‭ ‬القاذفات‭ ‬لدقائق؛‭ ‬ولكنْ‭ ‬أيَّة‭ ‬دقائقٍ‭ ‬حرجةٍ‭ ‬ومسعورة‭ ‬ٍكانت؛‭ ‬لقد‭ ‬تحوَّلَ‭ ‬ساتر‭ ‬المعركة‭ ‬إلى‭ ‬مسلخٍ‭ ‬للقرابين؛‭ ‬كان‭ ‬الدمُ‭ ‬يراقُ‭ ‬من‭ ‬جراح‭ ‬الجنود‭ ‬مختلطاً‭ ‬باستغاثتهم؛‭ ‬يصرخونَ‭ ‬بلا‭ ‬رجاءٍ‭ ‬ثمَّ‭ ‬يهمدونَ‭ ‬بنومةٍ‭ ‬أبدية‭ ‬على‭ ‬التراب‭. ‬رفعتُ‭ ‬رأسي‭ ‬برهةً‭ ‬لألمح‭ ‬معظم‭ ‬الدبابات‭ ‬تشتعل‭ ‬النار‭ ‬في‭ ‬أبراجها؛‭ ‬كيف‭ ‬تكون‭ ‬الهزيمة‭ ‬إذن؟‭ ‬صحيح‭ ‬أنَّ‭ ‬رامي‭ ‬دبابتي‭ ‬تمكَّنَ‭ ‬من‭ ‬إطلاق‭ ‬قذيفة‭ ‬واحدة؛‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬شدَّةِ‭ ‬ارتباكهِ‭ ‬سقطتْ‭ ‬على‭ ‬منطقة‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬الأهداف؛‭ ‬بينما‭ ‬الجنود‭ ‬الإيرانيين‭ ‬أراهم‭ ‬يتقافزون‭ ‬من‭ ‬ساترٍ‭ ‬إِلى‭ ‬آخر‭ ‬أمام‭ ‬عيني‭ ‬وعلى‭ ‬أكتافهم‭ ‬القاذفات؛‭ ‬اشتعلتْ‭ ‬دبابة‭ ‬بجوار‭ ‬دبابتي‭ ‬وتناهى‭ ‬لي‭ ‬صريخ‭ ‬طاقمها؛‭ ‬حين‭ ‬اشرأببتُ‭ ‬بعنقي‭ ‬من‭ ‬غرفة‭ ‬السائق‭ ‬لأستجليَ‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬لهم،‭ ‬أصابني‭ ‬الذعر؛‭ ‬أبصرتُ‭ ‬مخابرها‭ ‬يحاول‭ ‬انتشال‭ ‬آمره‭ ‬من‭ ‬قبَّة‭ ‬الرصد؛‭ ‬النقيب‭ ‬المصلاوي‭ ‬الطيِّب‭ ‬مدَّرس‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬الذي‭ ‬انخرط‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الاحتياط‭ ‬مجبراً؛‭ ‬النيران‭ ‬تلتهبُ‭ ‬بجُثَّتهِ؛‭ ‬حانتْ‭ ‬نظرة‭ ‬منّي‭ ‬إِلى‭ ‬ساترٍ‭ ‬أمامنا،‭ ‬تهدَّجَ‭ ‬كياني؛‭ ‬حين‭ ‬رأيتُ‭ ‬أحد‭ ‬الجنود‭ ‬الإيرانيين‭ ‬يلقمُ‭ ‬فوهة‭ ‬القاذفة‭ ‬صاروخاً‭ ‬ليسدِّده‭ ‬نحو‭ ‬الدبابة‭ ‬المحترقة؛‭ ‬كان‭ ‬الجندي‭ ‬الإيراني‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬لا‭ ‬يتخطَّى‭ ‬المئة‭ ‬متر‭ ‬وقدْ‭ ‬ثبَّتَ‭ ‬القاذفة‭ ‬على‭ ‬كتفهِ‭ ‬لإطلاق‭ ‬الصاروخ؛‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬مني‭ ‬إلاَّ‭ ‬الهتاف‭ ‬عليهِ‭ ‬مُستغيثاً‭ ‬والدمع‭ ‬يسيحُ‭ ‬من‭ ‬عيني؛‭ ‬وأنا‭ ‬أهزُّ‭ ‬يدي‭ ‬بقطعة‭ ‬قماش‭ ‬زرقاء‭ ‬قذرة‭ ‬كنتُ‭ ‬أجفّفُ‭ ‬بها‭ ‬نضح‭ ‬الوقود‭ ‬بين‭ ‬حين‭ ‬وآخر‭: ‬

‭- ‬لا،‭ ‬نو،‭ ‬لا؛‭ ‬ناء‭.. ‬نو‭.. ‬ناء؛‭ ‬لا‭..‬

اختلط‭ ‬هتافي‭ ‬بين‭ ‬مفرداتٍ‭ ‬إنجليزية‭ ‬وعربية‭ ‬وفارسية؛‭ ‬وإذا‭ ‬بالجندي‭ ‬الإيراني‭ ‬يتعاطف‭ ‬مع‭ ‬استغاثتي؛‭ ‬أنزلَ‭ ‬القاذفة‭ ‬من‭ ‬فوقَ‭ ‬كتفهِ‭ ‬وتراجع‭ ‬إِلى‭ ‬الخلف‭ ‬وعلى‭ ‬وجههِ‭ ‬ابتسامة‭ ‬ظفر؛‭ ‬ليختفي‭ ‬خلف‭ ‬الساتر؛‭ ‬بينما‭ ‬تمكَّن‭ ‬مخابر‭ ‬الدبابة‭ ‬المحترقة‭ ‬من‭ ‬رفع‭ ‬جُثَّة‭ ‬النقيب‭ ‬المتفحمة‭ ‬ليقذف‭ ‬بها‭ ‬إِلى‭ ‬الأرض‭ ‬المستعرة‭ ‬بالجحيم‭ ‬هي‭ ‬الأخرى؛‭ ‬سمعتُ‭ ‬صوت‭ ‬آمر‭ ‬دبابتي‭ ‬عبر‭ ‬قلنسوتي‭ ‬يدعوني‭ ‬إِلى‭ ‬الانسحاب‭ ‬على‭ ‬الفور؛‭ ‬تراجعتُ‭ ‬بالدبابة‭ ‬إِلى‭ ‬الخلف‭ ‬عشرات‭ ‬الأمتار‭ ‬لأستدير‭ ‬بها‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬نحو‭ ‬الطريق‭ ‬الأسفلتي؛‭ ‬فوجئتُ‭ ‬بدبابتين‭ ‬رابضتين‭ ‬أمامي‭ ‬تعترض‭ ‬درب‭ ‬نجاتي‭ ‬من‭ ‬المذبحة؛‭ ‬استفهمتُ‭ ‬من‭ ‬طاقم‭ ‬أحدى‭ ‬الدبابتين‭ ‬عمَّا‭ ‬يحول‭ ‬دون‭ ‬انطلاقهما‭ ‬نحو‭ ‬شارع‭ ‬الهزيمة؛‭ ‬أخبرني‭ ‬أحدهم‭ ‬بوجود‭ ‬عجلة‭ ‬أورال‭ ‬محمَّلة‭ ‬بالعتاد‭ ‬تحترقُ‭ ‬بضراوةٍ‭ ‬وتعترض‭ ‬السبيل؛‭ ‬انحرفتُ‭ ‬بدبابتي‭ ‬عن‭ ‬مسار‭ ‬الدبابتين‭ ‬بقرارٍ‭ ‬حاسمٍ‭ ‬مني؛‭ ‬لأنطلق‭ ‬صوبَ‭ ‬عجلة‭ ‬الأورال‭ ‬التي‭ ‬تحوَّلت‭ ‬إلى‭ ‬كتلة‭ ‬هائلة‭ ‬من‭ ‬النار؛‭ ‬أزحتها‭ ‬بمقدَّمة‭ ‬دبابتي‭ ‬عن‭ ‬الطريق‭ ‬ورائحة‭ ‬شواء‭ ‬لحم‭ ‬الجنود‭ ‬الذين‭ ‬يشتعلونَ‭ ‬فيها‭ ‬كادتْ‭ ‬تفقدني‭ ‬عزيمتي؛‭ ‬فقد‭ ‬ملأ‭ ‬القيء‭ ‬ملابسي‭ ‬وأنا‭ ‬أصعد‭ ‬بالدبَّابة‭ ‬إلى‭ ‬طريق‭ ‬النجاة‭ ‬وكنتُ‭ ‬أول‭ ‬المندحرين‭ ‬من‭ ‬المعركة‭. ‬وصلنا‭ ‬إِلى‭ ‬ساترٍ‭ ‬ترابي‭ ‬شُيَّدَ‭ ‬على‭ ‬عجلٍ؛‭ ‬مكثنا‭ ‬خلفهُ‭ ‬طوال‭ ‬الليل؛‭ ‬عند‭ ‬الساعة‭ ‬الثانية‭ ‬بعد‭ ‬منتصف‭ ‬الليل؛‭ ‬هجمتْ‭ ‬حضيرة‭ ‬مشاة‭ ‬إيرانية‭ ‬علينا‭ ‬بغتةً؛‭ ‬مستثمرة‭ ‬الظلام‭ ‬الدامس‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يخيّمُ‭ ‬على‭ ‬المكان؛‭ ‬اشتعلتْ‭ ‬النيران‭ ‬بدبَّابة‭ ‬صديقي‭ ‬الملازم‭ ‬أول‭ ‬سعد‭ ‬من‭ ‬أهالي‭ ‬البصرة؛‭ ‬كانت‭ ‬تربطني‭ ‬بهِ‭ ‬علاقة‭ ‬وطيدة؛‭ ‬فهو‭ ‬يكتب‭ ‬الشعر‭ ‬مثلي؛‭ ‬من‭ ‬حسن‭ ‬الحظ‭ ‬أنَّ‭ ‬حضيرة‭ ‬الغدر‭ ‬اختفتْ؛‭ ‬بعد‭ ‬إصابتها‭ ‬لدبابة‭ ‬صديقي؛‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬اشتدَّ‭ ‬القصف‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬اليسار‭ ‬حيثُ‭ ‬رأس‭ ‬البيشة؛‭  ‬ظلَّ‭ ‬القصف‭ ‬حتى‭ ‬طلائع‭ ‬الفجر؛‭ ‬لما‭ ‬أشرقتْ‭ ‬الشمس‭ ‬جاء‭ ‬أحد‭ ‬الضباط‭ ‬حاملاً‭ ‬بيده‭ ‬‮«‬يطغان‮»‬‭ ‬بقبضة‭ ‬بلاستيكية‭ ‬بيضاء‭ ‬صلدة،‭ ‬و»اليطغان‮»‬‭ ‬آلة‭ ‬حادة‭ ‬تشبه‭ ‬السيف‭ ‬لكن‭ ‬هامتها‭ ‬تكون‭ ‬بنصف‭ ‬هرم؛‭ ‬أخبرنا‭ ‬بنبرةٍ‭ ‬متعبة‭ ‬ومرتبكة‭: ‬

‭- ‬مَنْ‭ ‬يصدِّق‭ ‬أنَّهم‭ ‬يحاربوننا‭ ‬بهذه‭ ‬الأسلحة؟

‭- ‬أين‭ ‬وجدتهُ‭ ‬سيدي؟

‭- ‬لقدْ‭ ‬تركتهُ‭ ‬الحضيرة‭ ‬التي‭ ‬أصابتْ‭ ‬دبابة‭ ‬الملازم‭ ‬أول‭ ‬سعد‭ ‬ليلة‭ ‬أمس‭.‬

‭- ‬وهل‭ ‬هو‭ ‬بخير؟

‭- ‬احترقَ‭ ‬وجهه‭ ‬ويديه‭ ‬وأخليَ‭ ‬إلى‭ ‬الخطوط‭ ‬الخلفية‭.‬

هطلتْ‭ ‬دمعة‭ ‬منكسرة‭ ‬من‭ ‬عيني؛‭ ‬واختنقَ‭ ‬صدري‭ ‬بهمومٍ‭ ‬داميةٍ‭.‬

حسن‭ ‬النواب

 



Most Read

2024-09-23 03:20:37