تشابكتْ أصوات القصف العنيف؛ ما عدتُ أميّز بين صواريخ مدفعيتنا والإيرانيين؛ كانت دبَّابتي ترتج من ضراوته؛ قالوا إنَّ القائد الشرس «بارق الحاج حنطة» هجم على أمِّ الرصاص لتحريرها؛ بينما تحركَّتْ دباباتنا نحو الخط الاستراتيجي بصولةٍ هائجةٍ؛ دبَّابتي تنطلق بأقصى سرعةٍ؛ وشظايا الراجمات تتساقط كنوافير من الذهب الملتهب على جانبي الشارع! بعض شظاياها ترفُّ فوق فروة رأسي؛ في الطريق كانت دبَّابة قد سبقتنا لتصطدم بعجلةِ جيب صغيرة؛ ولكثرة ما سحقتها مسرَّفاتْ الدبابات؛ استوتْ تلك المركبة الصغيرة مع أسفلت الشارع كعلبة صفيح وهُرست أجساد من كان فيها؛ كانت جثثهم ملتصقة على الشارع بشكل مفزع كأسمالٍ ممزقةٍ؛ حين أدركنا الفجر؛ توقَّفنا لدقائق بدربٍ موحلٍ؛ قبل أنْ ننطلق إِلى ممر ترابي آخر؛ كنتُ أقود الدبابة وشمس شباط خائفة هي الأخرى؛ أروي هنا عن معركة احتلال مدينة الفاو في شباط عام 86 من قبل الإيرانيين؛ أبصرُ القتلى من جنودنا على جانبي الشارع؛ عجلات محترقة لا يمكن إحصاء عددها لكثرتها؛ أشمُّ رائحة شواء اللحم المحترق حين أمرقُ من جوارها بدبَّابتي؛ بدأتُ أرتعش؛ بلْ انتفض جسدي بعنف وتيبَّس فمي؛ سألتُ «صباح البهرزي» عبر الحاكي لقلنسوتي:
- متى ندخل إِلى المعركة؟
- أيها التعيس؛ نحن في معركة طاحنة منذ نصف ساعة.
كنتُ أقود الدبابة برشدٍ مهزوزِ ومخبولٍ في ذات الوقت؛ ولأنَّ موقعي في الأسفل، إزاء مكان آمر الدبابة في قبَّة الرصد؛ لم أتمكَّنْ من رصد مشهد الذبح المستمر للجنود مثلما يراهُ آمر دبَّابتي؛ سأصف مشهد المعركة بلا غلواء ومن دون زيادة أو نقصان؛ حين توقَّفتُ بدبَّابتي خلف ساتر ترابي واطئ وقذائف مدافع الهاون تتساقط كالمطر من الإيرانيين؛ أمرني «صباح البهرزي» بالصراخ:
- اعبر الساتر الترابي إِلى الأمام.
تظاهرتُ بالطرش؛ كأنّي لمْ أسمع صرخته؛ بلْ تجاهلتها حينَ أبصرت الدبابات تحترق الواحدة تلو الأخرى وهي تحاول عبور الساتر الترابي المنخفض؛ كنتُ انتظر ارتقاء أكثر من دبابة مع دبَّابتي ناصية الشارع وفي ذات التوقيت حتى يكون حظنا بالنجاة أكثر؛ إذْ كانت صواريخ قاذفات «الآر بي جي 7» للإيرانيين تتربَّصً بأية دبابة تحاول العبور إِلى الأمام؛ لما رفعتُ رأسي لأستطلع ما حولي، هالني مشهد الدبابات التي أكلتها النيران على الشارع؛ كانت أكثر من عشرين دبابة محترقة؛ أخرجتُ رأسي مرة أخرى من غرفة السائق خطفاً لأبصر عدد الدبابات التي لم تصبها الصواريخ؛ شعرتُ بالهلع؛ جميع الدبابات الناجية لا تتجاوز عدد أصابعي؛ هنا زعق آمر دبَّابتي يحثني لعبور الساتر:
- اعبر بسرعة؛ وإلا ّسيعدموننا!
الغريب أنَّ خوفك من الطغاة أكثر من خوفك من الحرب ومن الموت نفسه؛ فهل أنَّ الطغاة هم الذين ابتكروا الموت قبل الله؟ وإلاَّ بماذا أفسر القفز بدبَّابتي إِلى الأمام عندما عرفت أنَّ هناك الموت الأكيد الذي ينتظرنا من لجنة الإعدامات؟ عبرت بدبَّابتي إِلى الأمام؛ ورأيت لأول مرَّة بعيني المجرَّدة الجنود الإيرانيين يتقدمون مثل بقع غمام رمادية وعلى أكتافهم القاذفات المصوبة نحونا؛ كان الساتر الترابي الذي عبرت نحوه بدبَّابتي بعلو متر واحد وقد انتشر عليه الجنود؛ أي جنود؟ كانوا صبيةً بعمر الورد والله؛ بعضهم راح ينحب من شدة القصف والرعب؛ عرفتُ انهم من قوَّات الحرس الجمهوري للواء الثاني؛ ماهي إلاَّ شهقات حتى بدأت المجزرة؛ كانوا يذبحون بشظايا القنابل تباعاً بطريقةٍ مريعةٍ؛ وبكاؤهم يتصاعد وسط دخان المعركة؛ كأنّي أمام مجزرة للشياه والقصف يدمدم مثل طبول تقرع في موكب تطبير.
* التطبير: شجُّ الرؤوس بآلات حادَّة حزناً على مذبح الإمام الحسين «ع».
حسن النواب
2024-09-23 09:40:18