Breaking News >> News >> Azzaman


الحلقة (43)-حسن النواب


Link [2022-03-07 04:32:30]



تشابكتْ‭ ‬أصوات‭ ‬القصف‭ ‬العنيف؛‭ ‬ما‭ ‬عدتُ‭ ‬أميّز‭ ‬بين‭ ‬صواريخ‭ ‬مدفعيتنا‭ ‬والإيرانيين؛‭ ‬كانت‭ ‬دبَّابتي‭ ‬ترتج‭ ‬من‭ ‬ضراوته؛‭ ‬قالوا‭ ‬إنَّ‭ ‬القائد‭ ‬الشرس‭ ‬‮«‬بارق‭ ‬الحاج‭ ‬حنطة‮»‬‭ ‬هجم‭ ‬على‭ ‬أمِّ‭ ‬الرصاص‭ ‬لتحريرها؛‭ ‬بينما‭ ‬تحركَّتْ‭ ‬دباباتنا‭ ‬نحو‭ ‬الخط‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬بصولةٍ‭ ‬هائجةٍ؛‭ ‬دبَّابتي‭ ‬تنطلق‭ ‬بأقصى‭ ‬سرعةٍ؛‭ ‬وشظايا‭ ‬الراجمات‭ ‬تتساقط‭ ‬كنوافير‭ ‬من‭ ‬الذهب‭ ‬الملتهب‭ ‬على‭ ‬جانبي‭ ‬الشارع‭! ‬بعض‭ ‬شظاياها‭ ‬ترفُّ‭ ‬فوق‭ ‬فروة‭ ‬رأسي؛‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬كانت‭ ‬دبَّابة‭ ‬قد‭ ‬سبقتنا‭ ‬لتصطدم‭ ‬بعجلةِ‭ ‬جيب‭ ‬صغيرة؛‭ ‬ولكثرة‭ ‬ما‭ ‬سحقتها‭ ‬مسرَّفاتْ‭ ‬الدبابات؛‭ ‬استوتْ‭ ‬تلك‭ ‬المركبة‭ ‬الصغيرة‭ ‬مع‭ ‬أسفلت‭ ‬الشارع‭ ‬كعلبة‭ ‬صفيح‭ ‬وهُرست‭ ‬أجساد‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬فيها؛‭ ‬كانت‭ ‬جثثهم‭ ‬ملتصقة‭ ‬على‭ ‬الشارع‭ ‬بشكل‭ ‬مفزع‭ ‬كأسمالٍ‭ ‬ممزقةٍ؛‭ ‬حين‭ ‬أدركنا‭ ‬الفجر؛‭ ‬توقَّفنا‭ ‬لدقائق‭ ‬بدربٍ‭ ‬موحلٍ؛‭ ‬قبل‭ ‬أنْ‭ ‬ننطلق‭ ‬إِلى‭ ‬ممر‭ ‬ترابي‭ ‬آخر؛‭ ‬كنتُ‭ ‬أقود‭ ‬الدبابة‭ ‬وشمس‭ ‬شباط‭ ‬خائفة‭ ‬هي‭ ‬الأخرى؛‭ ‬أروي‭ ‬هنا‭ ‬عن‭ ‬معركة‭ ‬احتلال‭ ‬مدينة‭ ‬الفاو‭ ‬في‭ ‬شباط‭ ‬عام‭ ‬86‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الإيرانيين؛‭ ‬أبصرُ‭ ‬القتلى‭ ‬من‭ ‬جنودنا‭ ‬على‭ ‬جانبي‭ ‬الشارع؛‭ ‬عجلات‭ ‬محترقة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إحصاء‭ ‬عددها‭ ‬لكثرتها؛‭ ‬أشمُّ‭ ‬رائحة‭ ‬شواء‭ ‬اللحم‭ ‬المحترق‭ ‬حين‭ ‬أمرقُ‭ ‬من‭ ‬جوارها‭ ‬بدبَّابتي؛‭ ‬بدأتُ‭ ‬أرتعش؛‭ ‬بلْ‭ ‬انتفض‭ ‬جسدي‭ ‬بعنف‭ ‬وتيبَّس‭ ‬فمي؛‭ ‬سألتُ‭ ‬‮«‬صباح‭ ‬البهرزي‮»‬‭ ‬عبر‭ ‬الحاكي‭ ‬لقلنسوتي‭: ‬

‭- ‬متى‭ ‬ندخل‭ ‬إِلى‭ ‬المعركة؟

‭- ‬أيها‭ ‬التعيس؛‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬طاحنة‭ ‬منذ‭ ‬نصف‭ ‬ساعة‭.‬

كنتُ‭ ‬أقود‭ ‬الدبابة‭ ‬برشدٍ‭ ‬مهزوزِ‭ ‬ومخبولٍ‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬الوقت؛‭ ‬ولأنَّ‭ ‬موقعي‭ ‬في‭ ‬الأسفل،‭ ‬إزاء‭ ‬مكان‭ ‬آمر‭ ‬الدبابة‭ ‬في‭ ‬قبَّة‭ ‬الرصد؛‭ ‬لم‭ ‬أتمكَّنْ‭ ‬من‭ ‬رصد‭ ‬مشهد‭ ‬الذبح‭ ‬المستمر‭ ‬للجنود‭ ‬مثلما‭ ‬يراهُ‭ ‬آمر‭ ‬دبَّابتي؛‭ ‬سأصف‭ ‬مشهد‭ ‬المعركة‭ ‬بلا‭ ‬غلواء‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬زيادة‭ ‬أو‭ ‬نقصان؛‭ ‬حين‭ ‬توقَّفتُ‭ ‬بدبَّابتي‭ ‬خلف‭ ‬ساتر‭ ‬ترابي‭ ‬واطئ‭ ‬وقذائف‭ ‬مدافع‭ ‬الهاون‭ ‬تتساقط‭ ‬كالمطر‭ ‬من‭ ‬الإيرانيين؛‭ ‬أمرني‭ ‬‮«‬صباح‭ ‬البهرزي‮»‬‭ ‬بالصراخ‭: ‬

‭- ‬اعبر‭ ‬الساتر‭ ‬الترابي‭ ‬إِلى‭ ‬الأمام‭.‬

تظاهرتُ‭ ‬بالطرش؛‭ ‬كأنّي‭ ‬لمْ‭ ‬أسمع‭ ‬صرخته؛‭ ‬بلْ‭ ‬تجاهلتها‭ ‬حينَ‭ ‬أبصرت‭ ‬الدبابات‭ ‬تحترق‭ ‬الواحدة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى‭ ‬وهي‭ ‬تحاول‭ ‬عبور‭ ‬الساتر‭ ‬الترابي‭ ‬المنخفض؛‭ ‬كنتُ‭ ‬انتظر‭ ‬ارتقاء‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬دبابة‭ ‬مع‭ ‬دبَّابتي‭ ‬ناصية‭ ‬الشارع‭ ‬وفي‭ ‬ذات‭ ‬التوقيت‭ ‬حتى‭ ‬يكون‭ ‬حظنا‭ ‬بالنجاة‭ ‬أكثر؛‭ ‬إذْ‭ ‬كانت‭ ‬صواريخ‭ ‬قاذفات‭ ‬‮«‬الآر‭ ‬بي‭ ‬جي‭ ‬7‮»‬‭ ‬للإيرانيين‭ ‬تتربَّصً‭ ‬بأية‭ ‬دبابة‭ ‬تحاول‭ ‬العبور‭ ‬إِلى‭ ‬الأمام؛‭ ‬لما‭ ‬رفعتُ‭ ‬رأسي‭ ‬لأستطلع‭ ‬ما‭ ‬حولي،‭ ‬هالني‭ ‬مشهد‭ ‬الدبابات‭ ‬التي‭ ‬أكلتها‭ ‬النيران‭ ‬على‭ ‬الشارع؛‭ ‬كانت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬دبابة‭ ‬محترقة؛‭ ‬أخرجتُ‭ ‬رأسي‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬غرفة‭ ‬السائق‭ ‬خطفاً‭ ‬لأبصر‭ ‬عدد‭ ‬الدبابات‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تصبها‭ ‬الصواريخ؛‭ ‬شعرتُ‭ ‬بالهلع؛‭ ‬جميع‭ ‬الدبابات‭ ‬الناجية‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬عدد‭ ‬أصابعي؛‭ ‬هنا‭ ‬زعق‭ ‬آمر‭ ‬دبَّابتي‭ ‬يحثني‭ ‬لعبور‭ ‬الساتر‭: ‬

‭- ‬اعبر‭ ‬بسرعة؛‭ ‬وإلا‭ ‬ّسيعدموننا‭! ‬

الغريب‭ ‬أنَّ‭ ‬خوفك‭ ‬من‭ ‬الطغاة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خوفك‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬ومن‭ ‬الموت‭ ‬نفسه؛‭ ‬فهل‭ ‬أنَّ‭ ‬الطغاة‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬ابتكروا‭ ‬الموت‭ ‬قبل‭ ‬الله؟‭ ‬وإلاَّ‭ ‬بماذا‭ ‬أفسر‭ ‬القفز‭ ‬بدبَّابتي‭ ‬إِلى‭ ‬الأمام‭ ‬عندما‭ ‬عرفت‭ ‬أنَّ‭ ‬هناك‭ ‬الموت‭ ‬الأكيد‭ ‬الذي‭ ‬ينتظرنا‭ ‬من‭ ‬لجنة‭ ‬الإعدامات؟‭ ‬عبرت‭ ‬بدبَّابتي‭ ‬إِلى‭ ‬الأمام؛‭ ‬ورأيت‭ ‬لأول‭ ‬مرَّة‭ ‬بعيني‭ ‬المجرَّدة‭ ‬الجنود‭ ‬الإيرانيين‭ ‬يتقدمون‭ ‬مثل‭ ‬بقع‭ ‬غمام‭ ‬رمادية‭ ‬وعلى‭ ‬أكتافهم‭ ‬القاذفات‭ ‬المصوبة‭ ‬نحونا؛‭ ‬كان‭ ‬الساتر‭ ‬الترابي‭ ‬الذي‭ ‬عبرت‭ ‬نحوه‭ ‬بدبَّابتي‭ ‬بعلو‭ ‬متر‭ ‬واحد‭ ‬وقد‭ ‬انتشر‭ ‬عليه‭ ‬الجنود؛‭ ‬أي‭ ‬جنود؟‭ ‬كانوا‭ ‬صبيةً‭ ‬بعمر‭ ‬الورد‭ ‬والله؛‭ ‬بعضهم‭ ‬راح‭ ‬ينحب‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬القصف‭ ‬والرعب؛‭ ‬عرفتُ‭ ‬انهم‭ ‬من‭ ‬قوَّات‭ ‬الحرس‭ ‬الجمهوري‭ ‬للواء‭ ‬الثاني؛‭ ‬ماهي‭ ‬إلاَّ‭ ‬شهقات‭ ‬حتى‭ ‬بدأت‭ ‬المجزرة؛‭ ‬كانوا‭ ‬يذبحون‭ ‬بشظايا‭ ‬القنابل‭ ‬تباعاً‭ ‬بطريقةٍ‭ ‬مريعةٍ؛‭ ‬وبكاؤهم‭ ‬يتصاعد‭ ‬وسط‭ ‬دخان‭ ‬المعركة؛‭ ‬كأنّي‭ ‬أمام‭ ‬مجزرة‭ ‬للشياه‭ ‬والقصف‭ ‬يدمدم‭ ‬مثل‭ ‬طبول‭ ‬تقرع‭ ‬في‭ ‬موكب‭ ‬تطبير‭.‬

‭*‬‭ ‬التطبير‭: ‬شجُّ‭ ‬الرؤوس‭ ‬بآلات‭ ‬حادَّة‭ ‬حزناً‭ ‬على‭ ‬مذبح‭ ‬الإمام‭ ‬الحسين‭ ‬‮«‬ع‮»‬‭.‬

حسن‭ ‬النواب



Most Read

2024-09-23 09:40:18