Breaking News >> News >> Azzaman


زهورٌ مُتقرّحةٌ (40)-حسن النواب


Link [2022-02-14 07:12:07]



انصرفتُ‭ ‬من‭ ‬حظيرتهم‭ ‬الحزبية‭ ‬ولذَّة‭ ‬الانتصار‭ ‬تضيءُ‭ ‬دمي،‭ ‬سمعتُ‭ ‬أحدهم‭ ‬يهتف‭ ‬خلفي‭ ‬بكلام‭ ‬تهديدٍ‭ ‬ووعيدٍ؛‭ ‬فلمْ‭ ‬أعرهُ‭ ‬أيِّ‭ ‬اهتمام؛‭ ‬بئتُ‭ ‬إِلى‭ ‬البيت‭ ‬لأجلسَ‭ ‬بجوار‭ ‬أمي‭ ‬استوضحُ‭ ‬منها‭ ‬أخبار‭ ‬العائلة‭ ‬ثُمَّ‭ ‬أخبرتها‭ ‬بضرورة‭ ‬توجّهي‭ ‬إِلى‭ ‬بغداد؛‭ ‬تشبَّثتْ‭ ‬بيدي‭ ‬للبقاء‭ ‬معها‭ ‬حتى‭ ‬تشبع‭ ‬من‭ ‬رؤيتي؛‭ ‬أذعنتُ‭ ‬لرجائها‭ ‬لأمكثُ‭ ‬في‭ ‬منزلنا‭ ‬حتى‭ ‬صباح‭ ‬اليوم‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬الإجازة‭. ‬كنتُ‭ ‬قد‭ ‬سعيتُ‭ ‬خلال‭ ‬الأيام‭ ‬الستة‭ ‬المنصرمة‭ ‬لتحقيق‭ ‬لقاء‭ ‬مع‭ ‬ناهدة‭ ‬العشبي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬جدوى؛‭ ‬وصلتني‭ ‬أنباءً‭ ‬مشوَّشة‭ ‬عنها‭ ‬فاقمتْ‭ ‬من‭ ‬قلقي‭ ‬واضطرابي؛‭ ‬أخيراً‭ ‬تلقَّيتُ‭ ‬نبأً‭ ‬موثوقاً‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬صديقتها،‭ ‬كان‭ ‬وقعهُ‭ ‬مثل‭ ‬نبلةٍ‭ ‬خاترةٍ‭ ‬ثقبتْ‭ ‬مُهجتي؛‭ ‬إذْ‭ ‬أخبرتني‭ ‬أنَّ‭ ‬ناهدة‭ ‬العشبي‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬الاقتران‭ ‬بشخصٍ‭ ‬يمتلك‭ ‬الأطيان‭ ‬ويتمتع‭ ‬بنفوذٍ‭ ‬وسمعة‭ ‬طيبة‭ ‬لدى‭ ‬أهل‭ ‬المدينة‭ ‬وأنَّ‭ ‬رؤيتها‭ ‬أصبحتْ‭ ‬مستحيلة؛‭ ‬وإذا‭ ‬ما‭ ‬تحقَّق‭ ‬اللقاء‭ ‬معها‭ ‬ستكون‭ ‬النتائج‭ ‬وخيمة‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬مأزقٍ‭ ‬خطيرٍ‭ ‬يحطّم‭ ‬مستقبلها‭ ‬وربما‭ ‬يطيح‭ ‬بعنقي‭ ‬معها‭. ‬خارت‭ ‬روحي‭ ‬وتشظَّى‭ ‬الأسى‭ ‬في‭ ‬قلبي‭ ‬وعشَّشتْ‭ ‬غربانٌ‭ ‬تنعقُ‭ ‬في‭ ‬رأسي؛‭ ‬انتبذتُ‭ ‬ركناً‭ ‬في‭ ‬منزلنا‭ ‬لأقتل‭ ‬ساعات‭ ‬خيبتي‭ ‬بقراءة‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬آلام‭ ‬فارتر»؛‭ ‬مع‭ ‬الإسراف‭ ‬باحتساء‭ ‬الكحول‭ ‬معزَّزاً‭ ‬بالحبوب‭ ‬المخدَّرة؛‭ ‬ناشداً‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الانتحار‭ ‬الذي‭ ‬كاد‭ ‬يهرق‭ ‬روحي؛‭ ‬لولا‭ ‬حنان‭ ‬أمي‭ ‬الذي‭ ‬أشعل‭ ‬بصيص‭ ‬ضوء‭ ‬في‭ ‬منجم‭ ‬رأسي‭ ‬الثمل؛‭ ‬ودمعها‭ ‬الذي‭ ‬نثرتهُ‭ ‬بذور‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬دوحة‭ ‬قلبي‭ ‬القاحلة‭. ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬سوى‭ ‬الوشق‭ ‬من‭ ‬ارتمي‭ ‬بين‭ ‬أحضانه‭ ‬حتى‭ ‬يسترجع‭ ‬شهوة‭ ‬الحياة‭ ‬إِلى‭ ‬جنوني‭. ‬هرعتُ‭ ‬إلى‭ ‬حانات‭ ‬العاصمة‭ ‬بحثاً‭ ‬عنهُ‭ ‬في‭ ‬ظهيرة‭ ‬سابع‭ ‬أيام‭ ‬الإجازة؛‭ ‬يا‭ ‬إلهي‭ ‬ساعدني‭ ‬بالعثور‭ ‬عليه‭ ‬للخلاص‭ ‬من‭ ‬نكبةِ‭ ‬ناهدة‭ ‬العشبي؛‭ ‬وجدتُ‭ ‬شوارع‭ ‬بغداد‭ ‬ملغومةً‭ ‬بكمائن‭ ‬رجال‭ ‬الأمن‭ ‬والزنابير‭ ‬وأنا‭ ‬أحملُ‭ ‬حقيبة‭ ‬جرداء‭ ‬تقبعُ‭ ‬فيها‭ ‬ملابسي‭ ‬العسكرية،‭ ‬بينما‭ ‬تصريح‭ ‬الإجازة‭ ‬في‭ ‬جيبي،‭ ‬ممَّا‭ ‬حفَّزني‭ ‬لزيارة‭ ‬غرفتنا‭ ‬في‭ ‬الحيدر‭ ‬خانة؛‭ ‬وجدتها‭ ‬مقفلة؛‭ ‬ماهي‭ ‬إلاَ‭ ‬برهةً‭ ‬حتى‭ ‬أقبل‭ ‬نحوي‭ ‬وكيل‭ ‬الخان‭ ‬يتمايلُ‭ ‬بجسده‭ ‬الهزيل‭ ‬مع‭ ‬ابتسامة‭ ‬عريضة‭ ‬تكشفُ‭ ‬عن‭ ‬سنّهِ‭ ‬الذهبي؛‭ ‬بادر‭ ‬لمغازلتي‭ ‬بميوعةٍ‭: ‬

‭- ‬الخانْ‭ ‬وحشة‭ ‬بغيابك‭. ‬

‭- ‬متى‭ ‬غادر‭ ‬الغرفة‭ ‬خلدون؟

‭- ‬الغرفة‭ ‬تركها‭ ‬أستاذ‭ ‬خلدون‭.‬

‭- ‬والأثاث؟

‭- ‬باعه‭. ‬

تركتُ‭ ‬الخان‭ ‬الموبوء‭ ‬بشتى‭ ‬المكائد‭ ‬منكسراً؛‭ ‬بينما‭ ‬انتعشتْ‭ ‬الظنون‭ ‬المريعة‭ ‬برأسي؛‭ ‬كنتُ‭ ‬أخشى‭ ‬من‭ ‬شأنٍ‭ ‬واحدٍ،‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬القبض‭ ‬على‭ ‬المانعي؛‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬نهايتي‭ ‬معهُ‭. ‬دلفتُ‭ ‬إلى‭ ‬مقهى‭ ‬حسن‭ ‬عجمي‭ ‬مرتبكاً؛‭ ‬جلتُ‭ ‬ببصري‭ ‬على‭ ‬الأرائك‭ ‬خطفاً،‭ ‬لا‭ ‬أثرَ‭ ‬لصاحبي،‭ ‬سألتُ‭ ‬شاعراً‭ ‬معتوهاً‭ ‬كان‭ ‬يجلس‭ ‬وحيداً‭ ‬يثرثرُ‭ ‬مع‭ ‬نفسهِ؛‭ ‬أجابني‭ ‬شارداً‭: ‬

‭- ‬هذا‭ ‬المانعي‭ ‬مجنون‭. ‬

‭- ‬لماذا؟‭ ‬

وخز‭ ‬إبهامه‭ ‬بخاصرتي‭ ‬ثمَّ‭ ‬همس‭: ‬

‭-  ‬أنتما‭ ‬من‭ ‬العُصاة‭!‬

وأطلق‭ ‬كركرة‭ ‬عالية‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬المقهى؛‭ ‬خفقَ‭ ‬قلبي‭ ‬بعنف؛‭ ‬فالعصاة‭ ‬تعني‭ ‬البيش‭ ‬مرگه؛‭ ‬يبدو‭ ‬أنَّ‭ ‬المانعي‭ ‬أفشى‭ ‬بأسرارنا‭ ‬الخطيرة‭ ‬لهذا‭ ‬المعتوه‭ ‬في‭ ‬جلسة‭ ‬خمر،‭ ‬سألته‭ ‬باهتمام‭:‬

‭- ‬أين‭ ‬هو؟

أجابَ‭ ‬هازئاً‭: ‬

‭- ‬ذهبَ‭ ‬يناضل‭.‬

ارتعد‭ ‬بدني‭ ‬من‭ ‬هول‭ ‬ارتباكي؛‭ ‬تركتُ‭ ‬المقهى‭ ‬لتنهبَ‭ ‬خطاي‭ ‬شارع‭ ‬الرشيد‭ ‬حتى‭ ‬ولجتُ‭ ‬إِلى‭ ‬حانة‭ ‬شريف‭ ‬وحدَّاد،‭ ‬وجفَ‭ ‬فؤادي‭ ‬حين‭ ‬أبصرت‭ ‬الوشق‭ ‬يجلس‭ ‬وحدهُ‭ ‬مكتئبا‭ ‬بجوار‭ ‬النافذة،‭ ‬حين‭ ‬لمح‭ ‬وجودي‭ ‬حرَّكَ‭ ‬جسده‭ ‬إيماءة‭ ‬لاستقبالي،‭ ‬لبرهةٍ‭ ‬لبثتُ‭ ‬واقفاً‭ ‬أتمعَّنُ‭ ‬بوجهه‭ ‬بشوق‭ ‬عارم؛‭ ‬كانت‭ ‬صلعته‭ ‬يانعة‭ ‬بالزهور‭ ‬الصفر‭ ‬المخضرَّة؛‭ ‬أعني‭ ‬بقع‭ ‬الجذام‭ ‬التي‭ ‬تقرَّحت‭ ‬وتستفحل‭ ‬لغزو‭ ‬مواطن‭ ‬جسده؛‭ ‬سألته‭ ‬قبل‭ ‬أنْ‭ ‬أعبَّ‭ ‬الزعاف‭ ‬الأبيض‭ ‬في‭ ‬جوفي‭:  ‬

‭- ‬هل‭ ‬أنت‭ ‬مريض؟

هزَّ‭ ‬رأسهُ‭ ‬بيأسٍ‭ ‬أوجعني؛‭ ‬كان‭ ‬الضوء‭ ‬بعينيهِ‭ ‬الذابلتين‭ ‬شحيحاً؛‭ ‬حتى‭ ‬يكاد‭ ‬لا‭ ‬يقوى‭ ‬على‭ ‬النظر‭ ‬بهما‭ ‬فاقترحت‭ ‬عليه‭:‬

‭- ‬هيَّا‭ ‬انهض‭ ‬لنراجع‭ ‬طبيباً‭ ‬جلدياً‭ ‬ينقذك‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الوباء؛‭ ‬عندي‭ ‬نقود‭ ‬ٌكثيرة‭. ‬

كأنَّهُ‭ ‬لم‭ ‬يسمع‭ ‬اقتراحي،‭ ‬تلمَّظ‭ ‬الشراب‭ ‬مثل‭ ‬هرٍّ‭ ‬عجوز‭ ‬ولبثَ‭ ‬صامتاً،‭ ‬حاولتُ‭ ‬استمالته‭ ‬بنشر‭ ‬دنانيري‭ ‬على‭ ‬الطاولة‭: ‬

‭- ‬خُذ‭ ‬ما‭ ‬تشاء‭ ‬منها‭. ‬رمقني‭ ‬بنظرةٍ‭ ‬حنونٍ‭ ‬وقال‭ ‬مغموماً‭: ‬

‭- ‬أدباء‭ ‬الزيتوني‭ ‬منعوني‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬النادي؛‭ ‬وشمتوا‭ ‬بمرضي‭.‬

أوجعني‭ ‬بتصريحهِ‭ ‬الأليم؛‭ ‬هزَّت‭ ‬كلماتهُ‭ ‬معاقل‭ ‬وجداني؛‭ ‬نهضتُ‭ ‬ألثمُ‭ ‬زهوره‭ ‬الصفر‭ ‬المنتشرة‭ ‬على‭ ‬صلعته‭ ‬ودمعي‭ ‬يسيلُ‭ ‬على‭ ‬خدي؛‭ ‬بصوتٍ‭ ‬مخنوقٍ‭ ‬نبستْ‭: ‬

‭- ‬أنتَ‭ ‬لا‭ ‬تهابهم؛‭ ‬ولذا‭ ‬تراهم‭ ‬يشمتونَ‭ ‬بكَ‭.‬

نطقَ‭ ‬بخجلٍ‭: ‬

‭- ‬أعطني‭ ‬النقود‭ ‬وأنا‭ ‬أتدبَّر‭ ‬أمري‭.‬

وضعتُ‭ ‬فوق‭ ‬راحة‭ ‬يده‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬ديناراً‭ ‬فعلَّق‭ ‬مبتهجاً‭:  – ‬هذا‭ ‬كثير‭.‬

ثمَّ‭ ‬أطلق‭ ‬ضحكةً‭ ‬مجلجلةً‭ ‬وأومأ‭ ‬إلى‭ ‬النادل‭ ‬كي‭ ‬يحضر‭ ‬خمراً‭ ‬إضافياً‭.‬

حسن‭ ‬النواب



Most Read

2024-09-23 23:25:01