انصرفتُ من حظيرتهم الحزبية ولذَّة الانتصار تضيءُ دمي، سمعتُ أحدهم يهتف خلفي بكلام تهديدٍ ووعيدٍ؛ فلمْ أعرهُ أيِّ اهتمام؛ بئتُ إِلى البيت لأجلسَ بجوار أمي استوضحُ منها أخبار العائلة ثُمَّ أخبرتها بضرورة توجّهي إِلى بغداد؛ تشبَّثتْ بيدي للبقاء معها حتى تشبع من رؤيتي؛ أذعنتُ لرجائها لأمكثُ في منزلنا حتى صباح اليوم الأخير من الإجازة. كنتُ قد سعيتُ خلال الأيام الستة المنصرمة لتحقيق لقاء مع ناهدة العشبي من دون جدوى؛ وصلتني أنباءً مشوَّشة عنها فاقمتْ من قلقي واضطرابي؛ أخيراً تلقَّيتُ نبأً موثوقاً عن طريق صديقتها، كان وقعهُ مثل نبلةٍ خاترةٍ ثقبتْ مُهجتي؛ إذْ أخبرتني أنَّ ناهدة العشبي على وشك الاقتران بشخصٍ يمتلك الأطيان ويتمتع بنفوذٍ وسمعة طيبة لدى أهل المدينة وأنَّ رؤيتها أصبحتْ مستحيلة؛ وإذا ما تحقَّق اللقاء معها ستكون النتائج وخيمة تؤدي إلى مأزقٍ خطيرٍ يحطّم مستقبلها وربما يطيح بعنقي معها. خارت روحي وتشظَّى الأسى في قلبي وعشَّشتْ غربانٌ تنعقُ في رأسي؛ انتبذتُ ركناً في منزلنا لأقتل ساعات خيبتي بقراءة رواية «آلام فارتر»؛ مع الإسراف باحتساء الكحول معزَّزاً بالحبوب المخدَّرة؛ ناشداً من ذلك الانتحار الذي كاد يهرق روحي؛ لولا حنان أمي الذي أشعل بصيص ضوء في منجم رأسي الثمل؛ ودمعها الذي نثرتهُ بذور أمل في دوحة قلبي القاحلة. لم أجد سوى الوشق من ارتمي بين أحضانه حتى يسترجع شهوة الحياة إِلى جنوني. هرعتُ إلى حانات العاصمة بحثاً عنهُ في ظهيرة سابع أيام الإجازة؛ يا إلهي ساعدني بالعثور عليه للخلاص من نكبةِ ناهدة العشبي؛ وجدتُ شوارع بغداد ملغومةً بكمائن رجال الأمن والزنابير وأنا أحملُ حقيبة جرداء تقبعُ فيها ملابسي العسكرية، بينما تصريح الإجازة في جيبي، ممَّا حفَّزني لزيارة غرفتنا في الحيدر خانة؛ وجدتها مقفلة؛ ماهي إلاَ برهةً حتى أقبل نحوي وكيل الخان يتمايلُ بجسده الهزيل مع ابتسامة عريضة تكشفُ عن سنّهِ الذهبي؛ بادر لمغازلتي بميوعةٍ:
- الخانْ وحشة بغيابك.
- متى غادر الغرفة خلدون؟
- الغرفة تركها أستاذ خلدون.
- والأثاث؟
- باعه.
تركتُ الخان الموبوء بشتى المكائد منكسراً؛ بينما انتعشتْ الظنون المريعة برأسي؛ كنتُ أخشى من شأنٍ واحدٍ، ألا وهو القبض على المانعي؛ وهذا يعني نهايتي معهُ. دلفتُ إلى مقهى حسن عجمي مرتبكاً؛ جلتُ ببصري على الأرائك خطفاً، لا أثرَ لصاحبي، سألتُ شاعراً معتوهاً كان يجلس وحيداً يثرثرُ مع نفسهِ؛ أجابني شارداً:
- هذا المانعي مجنون.
- لماذا؟
وخز إبهامه بخاصرتي ثمَّ همس:
- أنتما من العُصاة!
وأطلق كركرة عالية في فضاء المقهى؛ خفقَ قلبي بعنف؛ فالعصاة تعني البيش مرگه؛ يبدو أنَّ المانعي أفشى بأسرارنا الخطيرة لهذا المعتوه في جلسة خمر، سألته باهتمام:
- أين هو؟
أجابَ هازئاً:
- ذهبَ يناضل.
ارتعد بدني من هول ارتباكي؛ تركتُ المقهى لتنهبَ خطاي شارع الرشيد حتى ولجتُ إِلى حانة شريف وحدَّاد، وجفَ فؤادي حين أبصرت الوشق يجلس وحدهُ مكتئبا بجوار النافذة، حين لمح وجودي حرَّكَ جسده إيماءة لاستقبالي، لبرهةٍ لبثتُ واقفاً أتمعَّنُ بوجهه بشوق عارم؛ كانت صلعته يانعة بالزهور الصفر المخضرَّة؛ أعني بقع الجذام التي تقرَّحت وتستفحل لغزو مواطن جسده؛ سألته قبل أنْ أعبَّ الزعاف الأبيض في جوفي:
- هل أنت مريض؟
هزَّ رأسهُ بيأسٍ أوجعني؛ كان الضوء بعينيهِ الذابلتين شحيحاً؛ حتى يكاد لا يقوى على النظر بهما فاقترحت عليه:
- هيَّا انهض لنراجع طبيباً جلدياً ينقذك من هذا الوباء؛ عندي نقود ٌكثيرة.
كأنَّهُ لم يسمع اقتراحي، تلمَّظ الشراب مثل هرٍّ عجوز ولبثَ صامتاً، حاولتُ استمالته بنشر دنانيري على الطاولة:
- خُذ ما تشاء منها. رمقني بنظرةٍ حنونٍ وقال مغموماً:
- أدباء الزيتوني منعوني من دخول النادي؛ وشمتوا بمرضي.
أوجعني بتصريحهِ الأليم؛ هزَّت كلماتهُ معاقل وجداني؛ نهضتُ ألثمُ زهوره الصفر المنتشرة على صلعته ودمعي يسيلُ على خدي؛ بصوتٍ مخنوقٍ نبستْ:
- أنتَ لا تهابهم؛ ولذا تراهم يشمتونَ بكَ.
نطقَ بخجلٍ:
- أعطني النقود وأنا أتدبَّر أمري.
وضعتُ فوق راحة يده أكثر من عشرين ديناراً فعلَّق مبتهجاً: – هذا كثير.
ثمَّ أطلق ضحكةً مجلجلةً وأومأ إلى النادل كي يحضر خمراً إضافياً.
حسن النواب
2024-09-23 23:25:01