قبلَ انصرافي؛ صفقتُ بحذائي أرض الغرفةِ وبزهوٍ أَدَّيتُ التحيَّة العسكريَّة لآمر اللواء هذه المرَّة، غبطةٌ عارمةٌ اجتاحتْ سهوبَ روحي، لمْ أتوقَّع هذه النتيجة الباهرة؛ يا لروعتك أيها القاص الطيِّب؛ ليس سواكَ من غمر قلبي بهذا الأمل في هذه الفلاة البكماء؛ انطلقتْ أقدامي تعدو نحو كتيبتي؛ وصلتها بعد نصف ساعة، استقبلني جنود رعيلي الثالث من السريَّة الثالثة منذهلين، دخلتُ إِلى خيمتهم وانهالتْ الأسئلة والدعابات اللاذعة منهم:
- ها.. أيها الشاعر أين أمضيت هروبك؟
اقترب أحد الجنود واستنشق رائحتي ليسألني متهكماً:
- أما ارتويتْ من شرب الخمر؟
- يعودُ من الهروب مخموراً ويعطونهُ إجازة؛ أيُّ دلالٍ هذا؟
- عودتكَ ليستْ في وقتها؛ سنهجمُ على الفاو لتحريرها.
- لقدْ جاء الشاعر بقدميّهِ يبحثُ عن موتهِ.
- لا عليكَ منهم، كيف هو حال الشعر يا صديقي؟
كان السؤال الأخير من سائق الدبَّابة سالم التركماني الذي هجم على وجهي يقبِّلهُ بلهفةٍ إذْ كان يودَّدني كثيراً؛ نهرهم بحزمٍ:
- كفُّوا عن هذا المزاح المزعج، دعوهُ يلتقط أنفاسهُ ويشرب الماء.
شعرتُ بالتوتر؛ لأشرب جرعة الماء على عجلٍ نتيجة ارتباكي؛ ماهي إلاَّ دقائق حتى وصل تصريح الإجازة بيد عريف الخفر، وضعتهُ في جيبي وأخبرتهم بتوريةٍ لا تخلو من المخاطرة:
- تحياتي للذين لم أرهم.
انفجر الجميع بالضحك؛ أعادتهم كلماتي إلى ساعات القصف حين نلهج بهذه العبارة بيننا تفكُّهاً وتهكُّماً واحتجاجاً؛ وهي الجُملة التي كان ينطقها الرئيس أغلب الأحيان في ختام حديثه مع الناس الذين كان يلتقيهم أثناء تجواله.
- هل ستعود بعد الإجازة؛ أمْ تهرب مرَّة ثانية؟
- سأعودُ على رأسي.
يمَّمتُ وجهي صوب الطريق السريع؛ توقٌ هائلٌ يزدهرُ في منجم صدري ويدسرني بلوغ مدينتي التي فارقتها منذ أربعة شهور بعد قرار هروبي إِلى الشمال؛ خلال الطريق انتقلتْ عدوى الأدعية السجادية إِلى مشاعري؛ فبدأتُ أهتفُ بترنيمةٍ حسينيةٍ خطرتْ على بالي، تلك الترنيمة التي سمعتها بطفولتي وظلَّت عالقةً في ذاكرتي عن الفارس الجميل القاسم ابن الإمام الحسن الذي استشهد في واقعة الطَّف، كنتُ أردّدُ تحت الشمس الحارقة:
- إنْ لمْ يجبكَ ناصرٌ من الأعادي، فهذه عُشَّاقك اليوم تنادي، لبيك يا بنْ المجتبى، يا زهرة الشُبَّان وزينة العرسانْ، يا مهجة الأحزان.
أولُّ ما فكرّتُ بهِ عندما وطأتْ قدماي أرض المدينة؛ هو ردّ الاعتبار لوالدي الذي استدعوه إِلى المنظمة الحزبية؛ لكني آثرتُ احتساء كأس خمرٍ قبل الذهاب إليهم؛ كانت أمي منشغلة بخبز أرغفتها في تنورٍ فوق السطح عندما دخلت إلى المنزل؛ هرعتْ زوجة أخي الأصغر تزفُّ لها نبأ قدومي، هبطتْ السلالم وهي تشقُّ ثوبها؛ كادتْ تهوي على وجهها لولا عناية الله؛ وعند العتبة الأخيرة من الدرج استكانتْ تزفر تـنهداتها كعليلةٍ تلفظ أنفاسها الأخيرة؛ ظلَّتْ تبتهلُ برغم انهيارها:
- رايتك بيضاء ربي!
كبحتُ دمعي بصعوبةٍ لأعانقها مُستنشقاً رائحتها الزكيَّة حتى انصهرتْ روحي بروحها؛ حينها أجهشتُ بالبكاء دون خجلٍ؛ مُعتقاً لعبراتي العنان على سجيتها؛ كنتُ أنتحبُ بحرقةٍ معها؛ كأنّي طفلٌ يلوذُ في حضنها من رعبٍ مجهولٍ؛ كأنَّ جميع مغامراتي والمعارك التي شهدتها في الحرب لا تعادل دمعة واحدة؛ أراها تهطلُ من عيني أمي الآن. تذكَّرتُ كيف كنتُ مع أخي الأكبر نقرأ على مسامعها رواية « الأم « لمكسيم غوركي. دامتْ نوبة النحيب مع أمي لدقائق؛ كنتُ أكفكفُ دمعي بخمارها الملطخ بالعجين؛ ها هي أمي بقوامها الهزيل تنهض معي إِلى غرفة الاستقبال متشبثة بجسدي؛ كما لو أني سأتبخَّر عنها غفلةً؛ سألتها بعسرٍ:
- أين أبي؟
- في معمل الطحين؛ سيعودُ بعد ساعة.
كانت مهنة والدي مراقباً فنيَّاً في مطحنةٍ أهليةٍ؛ وقدْ عملتُ معهُ خلال العطلة الصيفية يوم كنت طالباً جامعياً. حالما أحصل على أجوري حتى أكتري مركبة تحملني إِلى مضارب الغجر؛ وهناك أضعُ آخر دينار بحوزتي على صدر غانيةٍ مغلوبُ على أمرها وأعود بشروى نقير إِلى مدينتي. هذه حياتي التي ربما الكثير من يلومني عليها الآن. الغريب كنتُ أذهبُ مشحوناً بنظريات نوال السعداوي عن المرأة المضطهدة؛ وأعود ثملاً لاعناً جميع نظرياتها؛ حربٌ مبهمةٌ في وجداني بين جنوني وشهواتي. كرعتُ كأسين عرقٍ من زجاجةٍ تركها أخي الأكبر قبل الالتحاق إلى جبهة الحرب. لأهرع بعدها إِلى المنظمة الحزبية؛ لم أكنْ أمتلكُ القدرة على مواجهة خنازير البلاد بصحوي. لو أنَّ زفراتي الناقمة تتحوَّل إِلى رشقات رصاص صوبَ رؤوسهم المتخمة بأقوال الرئيس؛ دخلتُ إِلى زريبتهم الحزبيَّة؛ سألني أحدهم بغطرسةٍ:
- من سمحَ لكَ بالدخول أيها الجرو؟
مع انتشار مفعول العرق والأسى في دمي؛ كان بوسعي إغراق هذا الشخص ببصقة واحدةٍ من فمي؛ نعم لقد جُنَّ جنوني؛ هجمتُ عليهم بوقاحةٍ:
- أما تستحونْ؛ تجرجرون أبي بحثاً عن هاربٍ لا وجود لهُ؛ اسمعوني جيداً، أنا شاعر ولستُ جرواً؛ وقصائدي منشورة في الصحف؛ ومن المخجل عليكم التحقيق مع أبي بتهمة هروبي من الجبهة.
يبدو أنَّ كبيرهم اكتشف أني مخمورٌ فقال برفقٍ:
- على مهلك علينا؛ نحنُ نشرب الخمر أيضاً.
- على أية حال؛ هذه إجازتي.
وضعتها أمامهم بلا لياقةٍ؛ تفحَّصها كبيرهم وأعادها لي ثمَّ انتشلَ كأسهُ من تحت الطاولة وكرعها دفعةً واحدةً؛ نبسَ باستسلامٍ:
- نحنُ عبيد المأمور.
لا أدري كيف قفزتْ الكلمات من فمي المخمور:
- إذا كُنتمْ عبيداً؛ لا تقتربوا من الأحرار.
حسن النواب
2024-09-24 07:34:08