Breaking News >> News >> Azzaman


مقالة منع الأدب لجورج أورويل  (2)


Link [2022-06-17 22:38:26]



مقالة منع الأدب لجورج أورويل  (2)

ترجمة: نواف شاذل طاقة

تعد مقالة “منع الأدب” واحدة من أهم المقالات السياسية التي كتبها الروائي والصحافي البريطاني جورج أورويل (1903ـ1950  ) والتي عبر فيها بكل صراحة وجرأة عن مواضيع شغلت وما برحت تشغل الرأي العام. يعرض أورويل، واسمه الحقيقي إريك آرثر بلير، في هذه المقالة التي صدرت مطلع عام 1946 موقفه من الحرية الفكرية بوجه عام، ومن حرية الصحافة في المملكة المتحدة بشكل خاص، والدور الذي يمارسه أباطرة الصحافة الأثرياء والهيئات الحكومية في تقييد الحرية الفكرية في بلاده، من دون أن يغفل تهاون المثقف وبالتالي مسؤوليته عن غياب الحريات. إلى ذلك يشن أورويل هجوماً حاداً على الحزب الشيوعي الأم في الاتحاد السوفيتي، وعلى فرعه في بريطانيا، لدورهما في قمع الحريات، ويصف السياسات الشيوعية بأنها أشبه بالأنظمة الثيوقراطية (الدينية) التي تعتبر نفسها محصنة أمام الانتقادات، متهما الحركة الشيوعية في بلاده ببث ما وصفه بـ”الأساطير السامة” في أوساط المجتمع.

الكذب سمة متممة للأنظمة الشمولية

الدولة الشمولية هي دولة دينية من الناحية العملية

هناك عدد لا يحصى من البشر ممن يعتقدون أن من المعيب تزوير المناهج الدراسية العلمية، لكنهم لن يجدوا أي عيب في تزوير حقيقة تاريخية

لا يُعد الكذبُ المنظم الذي تمارسه الأنظمة الشمولية عملاً مقبولاً، أو كما يُزعم أحياناً بأن الكذب ذو طبيعة شبيهة بالخداع العسكري. لقد أضحى هذا الكذب في بعض الأحيان سمةً مكملةً للأنظمة الشمولية، وصار ممارسةً قد تستمر في بعض الأحيان حتى إذا باتت معسكرات الاحتجاز وقوات الشرطة السرية غير ضرورية. ثمة اسطورة خفية يتداولها المثقفون الشيوعيون تذهب إلى القول إنه على الرغم من أن الحكومة الروسية مضطرة حالياً للتعامل مع الدعاية الكاذبة، والمحاكمات الصورية، وما شابه ذلك، بيد أنها تسجل بشكل سري الوقائع الحقيقية وستنشرها في وقت ما في المستقبل. بوسعنا، كما اعتقد، أن نكون على ثقة بأن هذا لا يشكل واقع الحال، لأن الذهنية التي تنطوي على مثل هذا الفعل يُفترض أن تعود لمؤرخ ليبرالي يؤمن بأن التاريخ لا يمكن تغييره، وأن المعرفة الصائبة للتاريخ هامة بكل تأكيد. وطبقا لوجهة النظر الشمولية فان التاريخ شيء نصنعه وليس أمراً نتعرف عليه، وإن الدولة الشمولية هي دولة دينية “ثيوقراطية” من الناحية العملية، وإن الطبقة الحاكمة، وبغية الحفاظ على موقعها، عليها أن تفكر بطريقة وكأنها معصومة عن الخطأ. لكن، بما أنه لا يوجد شخص معصوم، فمن الضروري دائما إعادة ترتيب أحداث الماضي لإظهار أن هذا الخطأ أو ذاك لم يحدث، أو أن هذا النصر التخيلي أو ذاك قد حدث فعلاً. حينها يتطلب ثانية عند كل تغيير رئيسي في متطلبات السياسة إحداث تغيير مواز في العقيدة، والمجاهرة بشخصيات تاريخية بارزة. يحدث مثل هذا الأمر في كل مكان، لكنه يفضي على الأغلب بكل وضوح إلى تزوير صريح في المجتمعات التي لا تقبل إلا برأي واحد في أي وقت من الأوقات. بالواقع، تتطلب الشمولية التغيير المتواصل للماضي، وربما تتطلب على المدى الطويل عدم الإيمان بوجود الحقيقة الموضوعية. يميل عادة أصدقاء الشمولية في هذه البلاد إلى القول إنه طالما لا يمكن بلوغ الحقيقة المطلقة، فان كذبة كبيرة لن تكون أسوأ من كذبة صغيرة. يُشار أيضا إلى أن جميع السجلات التاريخية منحازة وغير دقيقة، أو أن الفيزياء الحديثة قد اثبتت لنا، من جهة أخرى، أن ما يبدو لنا انه عالم حقيقي ليس سوى وهم، وعليه فان الإيمان بالأدلة التي تمنحها الأحاسيس للمرء ما هو إلا فلسفة مبتذلة. إن مجتمعاً شمولياً ينجح في إدامة نفسه قد ينشئ نظاماً مصاباً بانفصام الشخصية تبقى فيه قوانين الفطرة السليمة مصانة في الحياة اليومية وفي بعض العلوم الدقيقة المحددة، لكن يمكن تجاهلها من جانب السياسيين والمؤرخين وعلماء الاجتماع. هناك عدد لا يحصى من البشر ممن يعتقدون أن من المعيب تزوير المناهج الدراسية العلمية، لكنهم لن يجدوا أي عيب في تزوير حقيقة تاريخية. وهنا، عند النقطة التي يتقاطع عندها الأدب مع السياسة، تمارس الشمولية أقصى ضغوطها على المثقف. ولا تتعرض العلوم الدقيقة، حتى هذا التاريخ، إلى تهديد بذات المستوى. وهذا يفسر جزئياً حقيقة أن يكون أسهل على العلماء في كل البلدان الاصطفاف وراء حكوماتهم مقارنة بالكُتاب.

بغية وضع الأمور في نصابها، دعوني أكرر ما قلته في بداية هذه المقالة: إن الأعداء المباشرين لقول الحقيقة في انكلترا، ومن ثمَّ أعداء حرية الفكر، هم أباطرة الصحافة، وأقطاب السينما، وكبار الموظفين، لكن نظرة بعيدة المدى تظهر أن الوهن الذي يصيب الرغبة بالتحرر بين صفوف المثقفين أنفسهم هو أشد الأعراض خطورة على الإطلاق. قد يبدو أنني كنت طيلة هذا الوقت اتحدث عن آثار الرقابة، وليس عن الأدب إجمالاً، بل عن جانب واحد من جوانب الصحافة السياسية. من المُسَلَّم به أن روسيا السوفيتية تشكل نوعاً من أنواع المناطق المحرمة في الصحافة البريطانية، ومن المُسَلّم به أيضاً أن مسائل تتعلق بدول مثل بولندا والحرب الأهلية الإسبانية، والاتفاق الروسي الألماني، وما إلى ذلك من مسائل، تعد مواضيع محرمة على النقاش الجاد، وإذا ما كنت تمتلك معلومات تتعارض مع الأفكار التقليدية السائدة فإن من المتوقع منك أما أن تحرفها أو تلتزم الصمت حيالها – أخذاً بالعلم بكل ما تقدم، لماذا يتعين على الأدب بمعناه الأوسع أن يتأثر؟ وهل يعد كل كاتب سياسياً، وهل يُعد كل كتابٍ بالضرورة تقريراً اخبارياً مباشراً؟ حتى في ظل أشد الأنظمة الدكتاتورية تشدداً، ألاّ يمكن للكاتب أن يبقى حراً في تفكيره وأن يكشف أو أن يخفي أفكاره غير التقليدية على نحو تكون فيه السلطات بمنتهى الغباء ما يحول دون تمكنها من التعرف عليه؟ على أية حال، إذا كان الكاتب نفسه متفقاً مع التفكير التقليدي السائد، لماذا يكون النظام غاضباً عليه؟ أليس الأدب، أو أي فن آخر، أكثر احتمالاً للازدهار في مجتمعات لا يوجد فيها تضارب في الفكر ولا تمييز حاد بين الفنان وجمهوره؟ وهل يتعين على المرء أن يفترض أن كل كاتبٍ متمردٌ، أو حتى أن الكاتب على هذا النحو هو شخص استثنائي؟

يواجَهْ المرء بمثل هذه الحجج بشكل أو بأخر كلما حاول الدفاع عن الحرية الفكرية ضد مزاعم الأنظمة الشمولية. وتستند هذه الحجج إلى سوء فهم كامل لما ينطوي عليه الأدب، وكيف – وربما ينبغي للمرء أن يقول لماذا – خرجت إلى حيز الوجود. يَفترض هؤلاء أن الكاتب إما أن يكون مجرد فنان ترفيهي أو كاتباً صغيراً مبتذلاً بوسعه التقلب من خط دعائي إلى آخر بكل سهولة كعازف صندوق الموسيقى يعزف كل الألحان. لكن في نهاية المطاف، لا بد من التساؤل بشأن كيفية كتابة كل هذه الكتب؟ يعد الأدب، إذا كان ذا مستوى غير متدن، محاولة للتأثير على وجهة نظر البشر من خلال تسجيل التجربة. وبقدر تعلق الأمر بحرية التعبير، لا يوجد فرق يذكر بين محض صحفي وبين أكثر الكتاب “غير السياسيين” الجامحين إلى الخيال. بيد أن الصحفي ليس حراً، ويدرك انعدام حريته، عندما يُجْبَر على كتابة الأكاذيب وتحريف ما تبدو له أخباراً هامة؛ ولا يحظى الكاتب الجامح إلى الخيال بالحرية عندما يضطر إلى تزييف مشاعره الذاتية، والتي تعد من وجهة نظره الشخصية بمثابة حقائق. قد يستطيع هذا الكاتب تشويه الحقيقة وتصوريها على هيئة كاريكاتير كي يجعل المعنى الذي يريده أكثر وضوحاً، لكنه لا يستطيع إساءة تمثيل المشهد في ذهنه؛ لا يقوى على القول بقناعة إنه يحب ما لا يحبه، أو أنه يؤمن بما لا يؤمن به. وإذا ما أجبر على قول ذلك، فان النتيجة الوحيدة هي أن قدراته الابداعية ستضمحل. ولا يستطيع حل المشكلة من خلال الابتعاد عن الموضوعات المثيرة للجدل. لا يوجد شيء اسمه أدب غير سياسي بصدق، ولا سيما في زمان مثل زماننا هذا، عندما تقترب المخاوف والأحقاد والولاءات ذات الطابع السياسي المباشر من سطح وعي الجميع. حتى أن جانباً محرماً واحداً قد يكون له تأثير معوق شامل على العقل، لأن ثمة خطراً دائماً بأن أية فكرة تستتبع بحرية قد تقود إلى فكرة مُحرمة. ويترتب على ذلك نشوء جو شمولي قاتل لأي كاتب نثري، على الرغم من أن الشاعر، والشاعر الغنائي بوجه عام، قد يجد نفسه قادراً على التنفس. هكذا، قد يكون أدب النثر الذي ساد خلال الأربعمائة سنة الماضية محكوماً عليه بالفناء في أي مجتمع شمولي تمكن من الصمود لأكثر من جيليين.

لقد ازدهر الأدب أحياناً في ظل الأنظمة الاستبدادية، لكن وكما سبق الإشارة إليه أكثر من مرة، فان الاستبداد في العهود السابقة لم يكن شمولياً. كانت أجهزته القمعية غير فعالة على الدوام، وغالبا ما كانت طبقاتها الحاكمة إما فاسدة، أو غير مبالية، أو ذات منظور نصف ليبرالي، وكانت العقائد الدينية السائدة تعمل عادة ضد الكمال ومفهوم العصمة البشرية. وعلى الرغم مما تقدم، يمكن القول إجمالاً إن أدب النثر بلغ أرفع مراتبه في فترات الديمقراطية والحرية الفكرية. لكن الجديد في الأنظمة الشمولية هو أن عقائدها ليست غير ممكنة التحدي فحسب، لكنها غير مستقرة أيضا. وقد تعين القبول بها تحت وطأة عذاب التعرض للعنة الأبدية، لكن من جانب آخر، كانت تلك العقائد عرضة للتغير باستمرار في أي لحظة ومن دون سابق إنذار. لنأخذ على سبيل المثال، المواقف المختلفة، غير المنسجمة على الاطلاق مع بعضها البعض، التي كان على الشيوعي الانكليزي أو “أنصار الشيوعية” أن يتبنوها حيال الحرب بين بريطانيا والمانيا. لسنوت سبقت أيلول من العام 1939? كان يتوقع من هذا الشيوعي أو المناصر له أن يكون في حالة قلق دائم حيال “أهوال النازية”، وأن يحرف كل ما يكتبه باتجاه إدانة هتلر: لكن بعد أيلول 1939? ولمدة عشرين شهراً، كان عليه أن يعتقد بأن المانيا كانت قد اُتهمت بارتكاب آثام أكثر مما اقترفه الآخرون، وأن عليه أن يسقط كلمة “نازي” من قاموسه، قدر تعلق الأمر بالمواد المطبوعة. لكن بعد سماعه نشرة أخبار الساعة الثامنة من صباح يوم 22 حزيران 1942? كان عليه أن يعتقد ثانيةً بأن النازية كانت أبشع شر شهده العالم على الاطلاق. نستطيع القول حالياً، إنه يسهل على السياسي ان يغير مواقفه بهذه الطريقة: لكن الأمر مختلف نوعاً ما قدر تعلق الأمر بالكاتب. وإذا كان ينبغي على الكاتب أن يغير ولاءه في اللحظة المناسبة، كان عليه أيضاً إما أن يطلق الأكاذيب حول مشاعره الذاتية، أو أن يخفي كل تلك المشاعر. في كلا الحالتين فانه قد دمر قدرته على العطاء. حينها، لن ترفض الكلمات أن تراوده فحسب، بل ستبدو كل الكلمات التي يستخدمها وكأنها تتلعثم فوق لسانه. تنطوي الكتابة السياسية في عصرنا الحالي بشكل كامل تقريبا على عبارات مصنوعة مسبقا، ومرتبطة واحدة بالأخرى، وكأنها قطع لعبة (ميكانو) الاطفال. إنها النتيجة الحتمية للرقابة الذاتية. لغرض الكتابة بلغة واضحة وقوية، على المرء أن يفكر من دون خوف، وإذا ما فكر المرء من دون خوف، فانه لن يكون متزمتاً سياسياً. وقد يكون الأمر عكس ذلك في “عصر الايمان” ، عندما تكون الأفكار التقليدية المتزمتة قد ترسخت ولا تؤخذ على محمل الجد. في هذه الحالة ربما كان من الممكن، أو كان من الممكن بالفعل، لمساحات واسعة من عقل الانسان أن تبقى غير متأثرة بما يفكر به المرء بصورة رسمية. وحتى في هذه الحالة، تجدر الملاحظة أن أدب النثر أوشك أن يختفي خلال عصر الايمان الوحيد الذي عاشته أوروبا بشغف. عبر طيلة العصور الوسطى تقريباً، لم يكن ثمة أدب نثري تخيلي، ولم يجد هذا الأدب النثري التخيلي طريقه إلى الكتابات التاريخية إلا نادراً؛ بينما عبر قادة المجتمع المثقفون عن أخطر أفكارهم بلغة ميتة تكاد لم تتغير طيلة ألف عام.

مع ذلك، فإن الشمولية لا تَعِدُ كثيراً بعصر إيمان بقدر ما تَعِد بعصر انفصام الشخصية. يصبح المجتمع شمولياً عندما تصبح بنيته مصطنعة بشكل فاضح: أي بعدما تفقد الطبقة الحاكمة دورها لكنها تنجح بالتشبث بالسلطة عن طريق القوة والاحتيال. إن مجتمعاً مثل هذا، مهما طال بقاؤه، لا يمكنه أبداً أن يصبح متسامحاً أو مستقراً فكرياً. ولا يمكن لهذا المجتمع أبداً أن يسمح بتسجيل صادق للحقائق أو الصدق الوجداني الذي يتطلبه الابداع الأدبي. غير أن الفساد الذي يتفشى بالبشر جراء الشمولية لا يتطلب من المرء بالضرورة العيش في بلد شمولي. إن مجرد تفشي أفكار محددة بوسعه أن ينشر نوعاً من السموم تجعل المواضيع، الواحد تلو الآخر، مادة مستحيلة الاستخدام للأغراض الأدبية. حيثما توجد عقائد تقليدية مفروضة، أو حتى عقيدتين، كما يحدث غالباً، تتوقف الكتابة الجيدة. وقد تجلى ذلك بشكل كبير خلال الحرب الاسبانية الأهلية. كانت الحرب بالنسبة للعديد من المثقفين الانكليز تجربة مؤثرة للغاية، لكنها لم تكن تجربة يمكنهم الكتابة عنها بصدق. كان ثمة أمران فقط مسموح لك بقولهما، وكلاهما أكاذيب واضحة: نتيجة لما تقدم، انتجت الحرب أطناناً من المطبوعات، لكن أغلبها لم يكن جديراً بالقراءة.



Most Read

2024-09-16 08:08:05