Breaking News >> News >> Azzaman


كتاب آدم والعراق ( رؤية تاريخية وأسطورية )    2-2


Link [2022-02-01 22:13:44]



كتاب آدم والعراق ( رؤية تاريخية وأسطورية )    2-2

أبو البشرية هبط على أرض العراق وحواء أرتدت عباءتها

نعيم عبد مهلهل

انتهى الفيلم ، وأضيئت المصابيح ، وبينما كانت لذة الاستمتاع بمشاهد الفيلم تسكظن عيون الجميع ، لمحت شبوط بن شغاتي يغادر مع الناس وفي عينيه تشع شهية تبادل القبلات .

ضحكت ، وأدركت وقتها لماذا كانت اجفان ماري ونظرتها تشد اجفان شبوط ونظراته بقوة ،لتثبت لأي من يشاهدهما انهما عاشقين.

أستعيد قصة حواء وشبوط بعد مرور اكثر من ثلاثين سنة على حدوثها . تلك العلاقة التي لم تعد سرا بين القرى مع غرابتها ودهشتها واسئلتها :ما الذي جمع قلب حواء المسيحية بشبوط ( المعيدي )  .

لقد كانت مثار الاستغراب والحديث الذي شغل جلسات السمر في مضائف القرى لزمن طويل ، وربما خفت الحديث عن هذه القصة مع ذلك القرار الذي لم يسبق لاحد ان اتخذه من سكان هذا المكان منذ ان شيد آدم الاول قراه في هذا المكان عندما حمل ( شبوط ) امتعته وقرر الهجرة الى قرية في نينوى ليقترن بحواء ، وكان شرطه ان يطبقا المثل القائل : ” أن يظل موسى بدينه وعيسى بدينه ” .اما شرطها هي فأن يغير اسمه من شبوط الى آدم . وعلى هذا الاتفاق دلف ( آدم الجديد ) الى حياة القرية المبنية من الحجر الابيض الواقعة في ضواحي مدينة تلكيف شمال الموصل ، وهناك تكيف مع الحياة الجديدة بالرغم من صعوبتها في بادئ الأمر حيث يعتمد  الناس هناك على الفلاحة ، فيما لم يتعود هو سوى على رعي الجواميس وصيد السمك والطيور.

تفاصيل المكان

هي حياته الجديدة ، اتقنها بصبر ، وتعلم العادات هنا ، وصارت ماري تجلسه كل ليلة في حجرها تعلمه الكتابة والقراءة وتقص عليه تفاصيل المكان وتهمس له :

آدم أبعد عن رأسك صورة الحياة هناك .ولا تخطُ خارج باب المنزل خطوتين وانت حافٍ.

ذات يوم شعر شبوط ـ القادم من اهوار الجبايش وبسبب وقوعه في الغرام ويتزوج فتاة من غير ملته وهذا لم يفعله غيره سوى معلم من ابناء الجبايش ولكنه ليس من نسل المعدان عندما سنحت له الظروف ليكمل تعليمه في السوربون وليتزوج سيدة فرنسية واشتغل لفترة مستشارا في الإليزيه من اجل اطلاع الرئيس ميتران على اوضاع الجنوب العراقي وجبهاته الملتهبة ، وشبوط هو أحد البشر الثاني والذي حمل اسم آدم ومن نسل المعدان من يقترن بفتاة من غير ملته وليعيش في تلكيف في قرية فلاحية اغلب سكانها من المسيحيين بضواحي مدينة تلكيف ـ شعر بالملل والكسل وجاء لزوجته حواء ليطلب منها أنه قد سئم من يومه ( الفاهي ) على حد قوله إذ لاشغل ولامشغلة ، وقال لها :انه سيموت ان بقي هكذا في الرتابة التي لا يُحسن فيها سوى مودة الليل والفراش وتأدية اعمال منزلية بسيطة كان يخجل ان يؤديها عندما كان يعيش هناك بين اهله .

الشيء الوحيد الذي يفتخر فيه ( شبوط ) انه بسبب تعلمه القراءة والكتابة على يد زوجته ، صار يطالع الكتب في مكتبة البيت الصغيرة .بالرغم من تألمه انه قرأ عن قصص الانبياء في الاناجيل والعهد الجديد والقديم ولم يقرأها في القرآن إلا انه صار يمتلك وعيا وثقافة وصار يجيب عن اسئلة يضعها هو لنفسه ، وهذا ما كان يشعر زوجته حواء بالسعادة لأنها استطاعت ان تثبت الى اهلها الذين يملؤهم الغيظ المكتوم لزواجها من رجل قادم من امكنة ليس فيها مدارس كثيرة وليس من دينها ، لكن حبهم لاهل ذاك المكان ومعرفتهم بطيبة الناس هناك حيث اشتغلوا نوادل في نادي الموظفين في مدينة الجبايش جعلهم يقتنعون ان ابنتهم بالرغم من خروجها عن العرف والتقاليد إلا أنها تزوجت رجلا طيبا وفطريا ، وربما ذات يوم سيتنصر ويردد معهم قداسات الصلاة في الكنيسة وإذا لم يكن هو فإن ابناءه سيفعلون ذلك.

قالت له حواء : ان شئت لتعمل فاذهب الى قريتك واجلب لك زوجين من الجواميس وحاول ان تجعلها تعيش هنا وتكون لك الأنيس ولنا مصدر رزق آخر .

قال لها : الجاموس لا يعيش هنا ، إنه يحتاج ماءً وقصباً والشتاء هنا طويل ولا يلائمه.

قالت :تعالَ معي الى حقل البطيخ وبستان الزيتون .تعلم الفلاحة . وعصر الزيتون وصناعة الصابون .

قال : يعجبني ان افتح حانوتا في المدينة .يعجبني منظر الدكاكين ، وتسكن في راسي رغبة غريبة اتمنى تحقيقها .

قالت :ننفذها ان لم تكن مكلفة .

قال :أظن انها ليست مكلفة فبعض الحاجيات نحن نصنعها في البيت .

قالت :هل تريد ان تبيع الزيتون والزيت والصابون .

قال : نعم واهم شيء ابيع معهم الباسطرمة.

ضحكت حواء : وما الذي جعلك تتمنى بيع الباسطرمة .

ضحك ..وتذكر الحبل الذي كان يمتد امام بيتهم في القرية حيث يعلق عليه السمك ليجفف ويصير يابسا ليعد منه اكلة شهيرة يتوارثها المعدان واهل الجنوب من ازمنة سومر يسمونها  بالدارج الشعبي (المسموطة ).

عادت حواء لضحكتها :وقالت : نعم عندكم السمك المجفف ، وعندنا نحن اللحم المجفف .انتم تسمونها مسموطة وانت تريد ان تسميها الباسطرمة .

قال :نعم.

وهكذا بدأ آدم بحانوت صغير تتدلى امامه حبال الباسطرمة ، وبدأت حياته تتغير وتتسع اعماله ، وزاد على ذلك انه صار يعلق مع حبال الباسطرمة حبالا من السمك المجفف وهذا لم يتعوده الناس هناك ، لكنه استطاع ان يقنعهم ان السمك المجفف لذيذ مثل الباسطرمة .

وعلى ايقاع اليوم الذي تملؤه رائحة السمك واللحم عاش ( شبوط ) حياة آدم الجديدة ، الحياة التي ابعدته عن رتابة العيش بدون اهوار وجواميس ، وصار يستغل الظهيرة الذي تخف فيها حركة السوق الى قراءة الكتب التي كان يستعيرها من جاره الحانوتي سمعان ، وطالما كانت لهما نقاشات كثيرة ، واهمها تلك التي بدأت تشغل راس شبوط ، حول الهجرات الاولى لأبناء آدم ، وتساءل كيف وصل ابناؤه سيرا على الاقدام من قرى الجنوب الى قرى مدينة تلكيف.؟

ضحك سمعان ورد على شبوط : الرغبة بإيجاد مأوى افضل يحول القدمين الى مركبة فضاء.

قال آدم : ولكن قرانا كانت آمنة وخيرها وفير .

قال :ولكنها اكتظت بالبشر ولم تعد تتحملهم لاسيما ان البر هناك مساحته اقل من الماء ، لهذا فإن اجدادك الذين لا يحبون الهجرات تكيفوا مع المياه ويعيشون عليها .

تعجب آدم وسأل جاره سمعان : وكيف تعرف كل هذا عن امكنتنا .هل زرتها من قبل كما فعل اهل زوجتي .

قال سمعان : لا يا ولدي الكتب تأخذك للأمكنة وانت في مكانك وستعرف بعد حين ان البشر من ابناء جدك آدم لم يهاجروا الى تلكيف فقط بل الى نينوى وبابل وبلاد الترك وبلاد الروم ووصلوا الى الاسكيمو وامريكا وكل مكان على الارض.

أترك آدم مع حبال الباسطرمة ويومياتها الممتعة مع جاره الحانوتي سمعان ، أتركه مع سعادة حواء وهي تشعر ان ليلها مع ( شبوط القديم ) وآدم الجديد صار اكثر حميمية وتفننا ، وصارت تشعر في قبلاته وهمساته شيئا من الغرام المدني الذي يتعلمه ابناء المدن من الروايات وافلام السينما .

فسألته : إن كان قد هجر كتاب العهد القديم والجديد وبدا يقرا شيئا جديدا من غير مكتبتها .

فاعترف لها ان جاره سمعان اعطاه رواياتٍ وكتباً ودواوين شعر .

سألته : ولمن قرأت من الشعر ؟

قال :شاعر من اهل البصرة اسمه السياب . وآخر اسمه حسين مردان ، واعترف انه احب السياب وخاف أن يكمل كتاب لمردان اسمه الازهار تورق داخل العاصفة.

قالت له :انا لم اقرأ للسياب سوى قصيدة اسمها انشودة المطر حفظتها عن ظهر قلب لانها مطلوبة في كتاب النصوص المدرسي ولكني سآخذ بنصيحتك وسأقرأ قصائده الاخرى.

شعر آدم بسعادة انه الان هو من يؤثر على حواء التي احست بانتصاره فهمست له وهي تعانقه :

ولكن لا تنسَ مراجعة العهد الجديد والاعتناء بحبال الباسطرمة ، وهش الذباب عنها ،فالناس لا تحب الباسطرمة التي تقف عليها الحشرات.

فهم آدم المغزى في هش الذباب وهمس لها :آدم ليس له سوى حواء ، وسأهش اي انثى تريد ان تغازل ولاتشتري.

ضحكت وعانقته وهي سعيدة بذكاء زوجها.

تلك هي التفاصيل الاولى من المتغيرات في حياة شبوط وقد اصبح آدم الذي افتقدته امه في حزنها عليه وعلى غيابه الطويل ، فلقد انسته حبال الباسطرمة والكتب ودفء فراش الليل الابيض النظيف وحوارات جاره في السوق سمعان ، ان يعود لقريته بين فترة واخرى في بداية زواجه .

عتبتُ عليه في اعماقي ، ليس لأني من بعض الذين سعوا بقوة لإقناع اهل شبوط وحواء في صراعهما ليتزوجا بالرغم من اختلاف انتمائها الديني والحضاري ، وكان يقول لي :استاذ انت صاحب الفضل الكبير في حياتي ، فأرد مبتسما : أنا وفيلم ابي فوق الشجرة .

يرد : نعم انت وعبد الحليم حافظ ونادية لطفي .

دخلت الباسطرمة قريتنا بفضل آدم الذي كان يجلبها معه كهدايا يوم يأتي لزيارة اهله . اول الامر استهجنها المعدان حين رأوها معلقة امام بيت ( شبوط ) الى جانب السمك المجفف ، ولم يشعروا برغبة لتذوقها لشعورهم انهم تعودوا على اللحم المذبوح والطازج اما هذا اللحم المفروم بطريقة غريبة فان رائحته ( زنجه ) وحين يحاججهم ان السمك ايضا حين يجفف تصير له رائحة لا تطاق ، فيردون :هذا سمك من مائنا ونعرف من اين جاء .

يرد : واهل قرية زوجتي يعرفون من اين جاء لحم الباسطرمة ،انه قادم من أبقارهم ، مثلما لحومكم قادمة من جواميسكم .

قالوا :وبالرغم من هذا لا نتحمل رائحته .

وحدنا نحن المعلمين من كنا سعداء بهدايا آدم القادم من تلكيف مع اكياس الزيتون وزيت الزيتون وهو ايضا مالم يتعود المعدان على اكله ،ولكنهم استطابوه حين عرفوا ان الزيتون مذكور في القرآن كواحد من شجر الجنة وان الزيت حين تدهن به اكتافهم وظهورهم يختفي منها ألم الاعصاب.

تباعدت زيارات آدم لقريته ، وصرنا نشتاق لحبال الباسطرمة التي كانت معلقة امام بيته ،ولكن المعلمين اكلوها كلها ، وفي انتظار عودته ثانية إلا ان زياراته تحولت من شهرية الى سنوية . والان تسجل دموع امه حزنها والنحيب من ان ولدها ( شبوط ) لم يزر قريته منذ عامين ، وانها تريد ان تراه قبل ان تموت .

حزنتُ لألم الأم ومرضها من اجل ولدها ، فتطوعت لأكتب رسالة الى الأبن شرحت فيها حال امه ، وارسلتها ، ولأسابيع طويلة لم يصلنا الرد ، وفي ذات صباح بارد تعالى نحيب وزعيق النساء في القرية .

كان الصباح كئيبا وقد وشحت الشمس بزوغها بخطوط مضيئة ولكنها تقطر دمعا على طول الطرقات الواصلة بين مخدعها وسقوف صرائف القرية حيث اعلن عن تشييع والدة شبوط دون ان يكون ولدها موجوداً ليودع والدته التي كان من بعض اسباب موتها حزنها عليه لأنه لم يزرها منذ ثلاث سنين.

حملوا السيدة المتوفاة بنعش قديم صبغ الملح اطراف اخشابه ، وعوضا عن ولده كنت انا في مقدمة حاملي التابوت الذي كان صاحبه خفيفا مثل ريشة طائر يمتلك اللهفة للرحيل الى ابعد ما في السماء من امكنة للراحة .

وبعد انتهاء مراسم التشييع وحملها بزورق الى مركز القضاء ومن هناك حيث تبرع ثلاثة من جيرانها لدفنها في مقبرة النجف ، كتبت رسالة ثانية الى ولدها .وكنت أدرك أن الرسالة الثانية سوف لن تصل اليه ايضا كالرسالة الاولى ، وربما هو ما جعله لايعرف بالغياب البعيد لأمه ، وكم تمنته ان يكون معها في لحظتها الاخيرة ليبدل دموع اجفانها الحزينة في غيابه الى دموع فرح لمجيئه إليها بعد ان قرأ رسالتي الأولى .

في الرسالة الثانية نوهت له بأن فراقا حدث بينه وبين التي يهوى غير حواء التي معه ، وكنت اتصور انه سيقرؤها وستنهمر دموعه عندما سيقرأ عبارتي في نهاية الرسالة : لقد انطفأت شمعة في حياتك تلك التي كانت تضيء لك ليالي الانتظار والاشتياق لوجهك .

وصلت الرسالة ، استلمتها حواء وقرأتها .ومثلما فعلت مع الرسالة الاولى خبّأتها عن زوجها  لسبب غامض  .بكت وهي تطوي الورقة وتحاشت ان ينظر اليها آدم ، لكنه رأى الدموع فسألها عن سبب بكائها؟

ــ ليس سوى الحنين الى ذكرى قديمة تخصني .

أحمر وجه آدم ، وخجل لأن ذكريات زوجته القديمة مبهمة بالنسبة اليه وغامضة ، فعندما كان يستذكر معها طفولته وايام المطاردة في القرية وعلى ضفاف الاهوار ، كانت هي لا تتحدث عن طفولتها إلا قليلا ، سوى انها تصل معه الى حقيقة ان طفولة الشمال لاتشبه طفولة الجنوب ابدا . لكنه تدارك خجله وقال : قديما عندما كنت تستذكرين شيئا او ذكرى قديمة لن تهطل دموعك ، ما الذي حدث الان وجعلك تبكين ، نحن اتفقنا ان نتشارك بكل تفاصيل حياتنا . لقد اتيت من مكان بريء وكل شيء واضح فيه واريد ان ابقى في الوضوح ، او على الاقل هذا ما تعلمته منك .

قالت : انها ذكرى طفل كان جارنا وكنا سوية نصنع الدمى الطينية تحت شجرة زيتون ، وذات يوم عاصف كان وحده تحت الشجرة يصنع دمية من الطين ليفاجئني بها كهدية في يوم عيد ميلادي ، لكن غصنا كبيرا سقط من الشجرة على راسه ومات.

قال : الغصن لا يقتل ، السيف والرصاصة يقتلان.

ــ كان غصنا كبيرا بحجم شجرة.

ــ اذن يحق لي ان احزن مثل حزنك لأجل هذا الطفل المسكين؟

ــ عليك ان تبكي مثل بكائي يا شبوط ؟.

تعجب وقال : لماذا لا تقولي يا آدم ؟!

قالت : هذه المرة اريد الدموع من شبوط وليس من آدم ؟

قال : ولكني لا اعرف طفل ذكرياتك .لقد بكيت لبكائك ؟

همست وهي تطوي اوراق رسالتي بين يديها : تعرفه جيدا يا شبوط .

لم يكن شبوط ليعلم ان طفل الذكريات هذا ليس سوى امها التي كورت جسدها كله في مساحة صغيرة من سريرها القصب ، نَحِبَت كثيرا وهي تتخيل وجه امها ثم اغمضت عينيها ولم تفتحهما بعدها .

سوية يذرفان الدمع الآن …وسوية احتضنا بعضهما بعضاً .وسوية غفيا . بللهما الدمع ، فبردا ، تغطت معه ثم همست :نم يا آدم ليس لك الآن سوى وسادة حواء من تغفو عليها مرتاحاً ، وغدا صباحا لا تتذكر من هذه الليلة شيئا ، إنسَ انك كنت تذرف الدموع ، فتلك هي الحياة ، من يرحل فيها نودعه بدمعة ، ومن يجيء نستقبله بابتسامة . وذاك طفل الذكريات رحل فبكينا من اجله ، وعلينا ان ننتظر من يأتي.

وهكذا بقي سرّاً .عدم عودة ( شبوط ) لزيارة امه عصيا علينا ، وكنت اتوقع وهو ما حصل ان حواء كانت تخبئ رسائلي فلا يقرأها . أما لماذا كانت تخبئ الرسائل ؟ فهذا سر ايضا تعرفه حواء وليس شبوط الذي تعود على اسمه الجديد وانشغل بحانوته واعماله في تجارة حبال الباسطرمة ولم يعد يفكر كثيرا بأمه وقريته . وكلما اراد ان يمنح اجفانه دقيقة استذكار لتلك الامكنة ومن تركها هناك .غشاه حضن حواء لينسيه كل شيء. ولكنه حتما لو كان قد قرأ رسائلي لهب مسرعا وعاد ، ولهذا اتساءل انا الان وقد انتهت ايام العزاء الثلاثة لأمه : ماذا لو عرف الآن ان امه قد توفيت ، حتما سيبكي وسيقول: لا فائدة من الذهاب الآن ، لقد رحلت الى مكان آخر لا يمكنني رؤيتها فيه .

بعد اسبوع كتبت له رسالة ثالثة ، لم اكتب فيها سوى عبارة واحدة من اربع كلمات : كم انت جاحد يا شبوط ؟

ومثل سابقيتها ، حواء من استلمتها وهي من ردت عليها هذه المرة :

(( تحيتي استاذ

أنت وعبد الحليم حافظ ونادية لطفي أصحاب فضل علي مدى الحياة . لقد منحتموني رجلا آتيا للتو من الجنة ليهبط الى الارض وأتلقاه انا زوجة وحبيبه . وانا من علمته كل يوم ، وهو اليوم تاجر كبير للباسطرمة .دعوني اكمل طريق نجاحه في الحياة ولا تلبوا منه المجيء كل مرة . اخاف عليه من حوادث الطرق )).

 (3)

تشرق الشمس هنا ، والأعوام تتكدس عليها الأيام وتمر ولكنها لا تتعاقب كما الفصول ، انها مثل الوردة ، تورق اول الصباح وتذبل عند منتصف الليل ، لتورق وردة اخرى بلون آخر وطعم آخر وعطر يختلف عن عطر وردة اليوم الذي مضى.

تركب الايام عربات الامس وتغادر بها وليس عليها سوى الواح طين تحمل مدونات لذكريات البشر ونعوش من غادروا عالمنا الى ظلمة التراب والصمت ، ولهذا آدم يحسب اليوم في تفاصيله الزمنية من خلال هاجسين : الذكريات والنعوش المحمولة.

 يتحدث آدم أمام جمع من احفاده ويقول : دائما هناك غد ، وحتى نتبين ملامحه علينا ان ننتظره من خلال عطر انفاسنا وهي تطلق زفيرها في الهواء بعد ان ننال قسط راحة بعد ان نكمل نصف البئر الذي يفتش فيه المعول عن الماء .

يسأله حفيد : والى متى نبقى نحفر يا جدي . نحن هنا لا نهنأ براحة سوى في الليل فيما نعتقد ان الذين هاجروا من اخوتنا واقاربنا الى الأمكنة البعيدة يهنؤون بقيلولات طويلة ومريحة ؟

قال آدم :في الأمكنة البكر تنعدم القيلولة ، لأن المكان يحتاج الى المعول كل يوم . وهنا لا يهنأ بالقيلولة سوى الجواميس ، أما نحن ، فالليل يكفي لنا لنستقبل معه الغد الذي نفكر ان نبني فيه معبدا من الحجر وليس من القصب كي يصمد امام بيوتنا .

يسأله أحدهم : ولماذا لا نبني بيوتنا من الحجر اولا .؟

يرد آدم : الله أوجب.

أبنائي أن الذين هاجروا قد تكون لهم قيلولات طويلة ، لأنهم وجدوا من الشجر والثمر والعشب والحيوان ما لم نجده نحن هنا ، ولكن لن تكون كتلك التي تسكننا في الليل ، قيلولة الروح . تلك الراحة العميقة التي يتمناها كل البشر.

قال احدهم : إنكَ تقصد الموت يا جدي ؟

ــ كلا  . الموت ليس قيلولة ، إنما هي رقدة لا يستفيق معها الجسد ، الروح من تستفيق لتلبس ثوبا اخر لطريقين .اما الفردوس أو الجحيم . الجسد القديم يبقى .والروح تتجدد .

ــ يبقى بدون روح يا جدي ؟

ــ نعم .الله خلق الروح أولا والجسد رداؤها ، والرداء يبدل حين يبلى كما تفعلون انتم مع الثياب التي على أجسادكم .

وصايا الرب

حواء كانت جالسة مع الذين يستمعون الى زوجها ، حزنت وقالت : أنا أعلم في هكذا نهايات ، تعلمتها من مواعظك ووصايا الرب ، ولكني افكر بحزن الانسان البسيط عندما تزور احلامه صور هكذا نهايات. حتما سينهار ؟

قال آدم : ولكن الرب أسكن فينا القناعة في انتظار ما يحدث ما دمنا نؤمن أن ذواتنا ستنال الحياة الاخرى .

البشر يبدلون ثيابهم كل مرة ولا يشتاقون اليها ، رغبة الجديد هي من تغمرهم.

تساءلت حواء : ولكن الجسد ليس ثوبا ..إنه تفاصيل الحركة وبوصلة الاتجاهات صوب اليمين والشمال والشرق والغرب .إنه همزة الوصل بيني وبين السماء من خلال الصلاة ، وبين الجوع والرغيف من خلال المطبخ ، وبينك وبيني من اجل حميمية الليل ودفء الوسادة . كل هذا بدون جسد لن يتم ؟

قال آدم : أهم شيء هنا همسة الليل ، حيث يظلّلنا الرب بكل اشيائه المضيئة والعالية ، الاقمار والنجوم والكواكب وأنتِ بعطرك ، وفي الصباح ستنتظرنا الشمس وستمدين امام باب البيت حبلا طويلا تعلقين عليه ما زاد من صيد السمك الوفير.

قالت حواء: ويقولون إن أولادنا الذين اخذتهم الجهات الشمالية يعلقون لحم البقر والدواب على الحبال لتيبس في الشمس حيث لا يتوفر السمك .

يتخيل آدم واحدا من احفاده ، ويتمنى لو كان جسده قويا وقدماه ليذهب اليه وفيه متاعه سلال السمك ليعلقها جنبا الى جنب مع اللحوم المنشورة تحت ضوء الشمس .ويقول :

تلك هدايانا أتمنى ان تقبلوها.

بين حبلين تتأرجح الأزمنة . وفي حانوته وسط السوق الصغير في مدينة تلكيف الآشورية يتمنى واحد من احفاد آدم يدعى ( شبوط ) غيروا اسمه الى آدم لضرورة المكان والاقتران . يتمنى ان يمد حبلا ينشرُ عليه الاسماك ، كتلك الحبال التي كانت والدته تعلق عليها السمك في قريتهم البعيدة هناك في الاهوار ، فيكون لديه بضاعتان ..باسطرمة اللحم ، وباسطرمة السمك.

لكن زوجته تهمس له: السمك لا يملك اجنحة ويجيء من قريتك الى تلكيف . كن قنوعا بحبال الباسطرمة ودع السمك يجفف احلامه تحت شمس الاهوار .ما يكون لم يعد ما كان . أنت الآن آدم وليس شبوط لا تدعني اعيد هذه العبارة .

ــ لكني اشتهيه ..بطون المعدان لن يقتل فيها الجوع سوى خبز الطابك وزفرة السمك.

ــ عليك ان تتعود .

ــ اتمنى ان اذهب الى هناك واجلب منه سلة .

تتذكر انها اخفت عنه الرسائل التي اتت من القرية والتي تخبره بوفاة امه ، فلا تريده يذهب ليعود حزينا وهي التي أوعدته بحياة يلونها الفرح في ليل عطرها ونهارات حانوت الباسطرمة .

قالت : دجلة قريبة ، لا تبعد عنا سوى أميال ، إذهب واجلب ما تريد من السمك ،جففه في باحة بيتنا . ولكنها تجارة خاسرة .الناس هنا لا تحب أكل المسموطة.

قال : اريدها لآكلها انا .

تضحك وتقول :ستجعل البيت جحيما من خلال رائحة السمك اليابس.

ــ تلك رائحة حياتي القديمة لن اتخلى عنها ، الباسطرمة حين تقربين انفك اليها تحمل نفس الرائحة.؟

ــ ولكننا تعودنا عليها .

ــ ربما انتم تعودتم عليها منذ حصار نادر شاه لمدينة الموصل ، او انها جاءت مع الترك . ولكنها بالنسبة لنا موجودة قبل ان يتعلم البشر الكتابة .انها الاكلة التي تقوت بها آدم في شتائه البارد وجلجامش في سفره البعيد.

تتعجب وتسأله : من اين لك هذه المعلومات .

ــ من كتب جاري في السوق الحانوتي سمعان. ولاتنسي ان سمك دجلة لن يكون بطعم سمك الاهوار ، انه باهت .. معلمي نعمة يقول :للماء المالح مذاق ارواحنا حين يملح السمك والخبز وحياتنا.

” أفرح ( أنا ) حين اتخيل تلميذي شبوط وهو يأخذ من كلمات كنت اقولها في الدرس لتلاميذ اعرف انهم لا يفقهون منها شيئا . “

قالت له : سعيدة أنك ما زلت تحفظ كلمات معلمك ، ذلك الرجل الطيب الذي جمع رأسينا معا وكان شاهدا لحضورنا فيلم ابي فوق الشجرة .

( مرة اخرى اكسب سعادة ملونة بأن حواء تعترف بفضلي لكنها لا ترد على رسائلي )

قال آدم  ( شبوط ) : وبالرغم من هذا املك الرغبة الكبيرة لأذهب كي ارى امي ومعلمي واهل قريتي واجلب سلالاً من المسموطة . حتما امي خزنت من اجلي الكثير ، واغلبه من سمك ( البني ) الذي وحده يصلح ليكون سمكا مجففا طيب المذاق.تبعده عن امنيته وتقول : ليس الآن ، حانوتك مازال جديدا ويحتاج الى تواجدك اليومي ليعرفك الناس ويصبح لديك زبائن كثيرون.

قال : لا أدري ..في عينيك أعذار غير التي تقولينها لتمنعيني من الذهاب الى قريتنا .

وهناك ، في المكان القصي من جنوب القرية الاولى حيث أبوا البشر لم يزلا هناك حيث الضوء والقصب وظلال بساتين ملتقى النهرين وحيث اقتنع بما اقترحته حواء ان يملحا فخذ ذكر جاموس ويعلقانه تحت أشعة الشمس ليجفف ،فلربما يصبح طعمه لذيذا كالسمك المجفف بعد ان سمعت ان ابناءها المهاجرين الى الشمال يفعلون ذلك.

بقي فخذ الثور معلقا لأيام تحت لهيب الشمس وحين جف وانزلوه وجدوه متعفنا لا يصلح للأكل .

ضحكت حواء وقالت : ارموه في الماء طعاما للسمك ، ما لم يصلح لبطون اهل الشمس لن يصلح لبطون اهل الجنوب.

سكنت تلك العبارة ذاكرة آدم وتمنى ان يبدأ سفره الأول ومعه سلال السمك المجفف هدايا لأناس يتمنى الوصول اليهم.

رفضت حواء الفكرة وقالت : المفترض ان يجيء الابن ليزور اباه وليس العكس.

صمت آدم وهو يدرك من كلام زوجته أن للسفر أخلاقيات ايضا ، ولتسكنه صورة تنبؤية لواحد من احفاده القساة الذي قدر له ان يكون والياً على مدينة اسمها الكوفة يدعى الحجاج قوله : لولا فرحة الأياب لعذبّت اعدائي بالسفر.

قالت حواء : أتمنى أن لا يكون في عالمنا وقريتنا عداء بين ابنائنا ، فما حدث بين ولدينا قابيل وهابيل أتمنى أن لا يتكرر.

قال آدم : ومن يضمن أن الأمكنة التي ذهب اليها ابناؤنا لا تشهد عراكا وشجارا . أحياناً تأتي الى منامي أحلام مزعجة عن عراك وشجار بين طيور تحوم في السماء فوق رؤوسنا .

ولكي تبعد عنه ذلك المشهد المشؤوم قالت : نحن نراها كل يوم تتشاجر فوق رؤوسنا من اجل حبات قمح او عش. أما اولادنا فلديهم عقول ويفكرون ليقتنعوا أن الشجار بين اثنين حين يكبر يصبح حربا بين الفين.

أول مرة تنطق مفردة ( حرب ) من لسان البشر ، يأخذها آدم من فم زوجته ويخبئها في دمعته وبين اجفانه خوفا من ان يسرقها الاحفاد ويعملوا على الاخذ بها كطريقة لحل النزاعات التي بدأت تنشأ بينهم حول غلة الحصاد ومساحة الحقول وما يجنونه من صيد السمك. وتطور الشجار بينهم عندما بدؤوا يطورون شجار الاطفال فيما بينهم ليصبح شجارا بين العوائل.

لم ينم آدم في تلك الليلة . احس بتأثير المفردة وما ستحدثه في المكان عندما تصير عرفا وتقليدا متبعا ومتداولا لحل النزاعات بين ابنائه.

أقف أنا على ضفاف الهور اتخيل حزن آدم على تلك الحروب التي ستقتل ابناءً واحفادا غير قابيل وهابيل ، احنّ لتلك الدمعة واسكنها في عيون شبوط وقد سكنه حزن موت امه .وبين دمعة ادم ودمعة ام شبوط اتخيل الازمنة من خلال نافذة تلك المفردة التي اطلقتها اول مرة أمنا الازلية حواء ، فأعيد بعضا من مشابهاتها في موت الحرب الذي سكن قريتنا اول مرة ، عندما كان اهل القرية من المعدان لايعرفون شيئا اسمه الحرب. وعندما كانوا ينتظرون عرابا مندائيا يزورهم في مواسم الربيع ليقرأ طالع الايام القادمة ، وحتما كانوا لا يريدون فيها ايام موت وحزن .

لكن هذه القصة من المكان الذي اشتغلت فيه معلما ،تثبت تماما سبب دمعة آدم وقلقه كل تلك الليلة يوم سمع تلك المفردة من فم زوجته حواء.

وتلك قصة موظف الخدمة في مدرستنا ريكان هي من بعض تلك القصص التي تمنى آدم ان لا يعيش لحظتها واحدا من ابنائه ، لكن ..وبعد الاف السنين وليس ببعيد عن قرية السكن الاول لوالد البشرية  حيث تجاور الحرب والحب ، ونعيش طقوس لقائهما في تلك اللحظة الفاصلة التي تقرر فيه الحياة أن لامجال لنسمة الهواء لتدخل الصدر وبدلا عنها ستدخل الرصاصة أو طعنة السيف.وفي الصورتين هناك طروادة دائمة تعيش في كل عصر تحتوي على خديعة واسطورة وقصة غرام ونحيب أب على فقدان ولده في ساحة المعركة.

ولكي لا تصيب لعنة طروادة ريكان فقد كان يمارس كل طقوس التشفع الى أهل البيت ومراقد السادة وقبة النبي العزير ليبقيَ ولده سالما بعد أن ساقه تجنيد الجبايش جندي مشاة في اللواء الرابع عشر المرابط في منطقة سبيلك الجبلية شمال مدينة اربيل لمقاتلة الملا الثائر ضد حكومات بغداد منذ عهد فيصل الأول وما تلاه من جميع الحكومات.

وفي كل مرة كان ريكان ينذر شيئاً ، من الدجاجة الى العجل ، الى سمكة ( كطان ) التي تكفي غداء للهيئة التعليمية كلها .

هذا عندما يهبط ولده على القرية قادما من وحدته العسكرية يزهو بظلهِ الطويل وملامحه السمراء وحقيبته التي ادخلت الجوز لأول مرة في أفواه بيت ريكان والجيران ، وبفضله ارتدت أخواته وبنات الجيران قماش الانكورا بألوانه الزاهية وأغلبه ذلك الاحمر المورد بضوئه القاني المحاط بزخرفات سوداء  الذي كانت قرى المدن الكردية تبيعه مهرباً من ايران ، وكذلك بفضل ابن ريكان لامست الحناء ضفائر بنات القرية ، وتحول الجندي الى سوق ينتظره الجميع في كل شهر وهو يحمل ما اوصاه به أهل القرية قبل التحاقه لوحدته.

ذات يوم حط على مساء القرية بزورقه المستأجر طبيب القرية وبائع المخشلات والذي يُصلح المناجل المكسورة وقارئ الغيب المندائي زهرون الذي يأتي في أوقات متباعدة قادما من سوق الشيوخ في رحلة نهرية تستغرق يومين يمر خلالها على العديد من القرى .

اتى زهرون الى قريتنا وحل ضيفا على بيت شغاتي مثل كل مرة ، وكان ريكان يسكنه القلق العميق لأن ولده تأخر عن موعد اجازته اكثر من اسبوعين وكان يأمل أن تصله رسالة منه مثلما يفعل كل مرة ، لكنه لم يكتب هذه المرة فجعل الرجل لا ينام ليله فيما تحدثه زوجته عن كوابيس مزعجة تزورها في احلامها فيرد عليها : اصمتي يا امرأة ، فال الله ولا فالك .

قرية أخرى

في ذلك اليوم انهى زهرون جميع اعماله في القرية ، لكنه لم يغادرها كعادته الى القرية الاخرى ، وطلب من شغاتي ان يجدد ضيافته لليلة اخرى ، فشعر ريكان بما أشعرهُ أن زهرون بقيَ لسبب ما ، قرأه في ضوء النجوم حيث ذكر له مرة : أنَ مصائرنا مكتوبة على صفحات لامعة على مسافات البريق الآتي من نجوم السماء ، وعلى العراف أنْ يُحسنَ قراءتها لمن يؤمن بقدريتها .

في الليل أتى اليَّ وطلب مني أن ارافقه الى بيت شغاتي كي يحدث المندائي زهرون بما يشغل رأسه؟

عرفت السبب ، لكني ذهبت معه وأنا أعرف علته.

شربنا الشاي ، ثم ابتدأ زهرون الكلام دون مقدمات : ريكان جئت لتعرف عن ابنك.

قال :نعم .

قال المندائي ، في الليل تأمل النجوم بمرح الروح يجعلكَ تتغلب على الحزن.

قال ريكان : ولكن أمه ترى أحلاما مزعجة.

ــ قل لها أن تتأمل النجوم قبل أن تنام ، فولدها في عهدتها.

لم يفهم ريكان شيئا من مغزى كلام زهرون . لكنه عندما لمحَ ولادة دمعة بين اجفاني .

قال :هل اسرد ثوبي لأجله وأصرخ .

قال شغاتي : لا تفعل ذلك يا أخي الله موجود .

في ذات اللحظة  جاء ولد صغير واقتحم المكان ليخبرنا أن زورقا أتى من جهة الجبايش يحمل نعشا لأحد ابناء القرية .

سقط ريكان من فوره مغشيا عليه ، وقرب رأسه كان زهرون يتمتم بدعاء ما ، وفي اللحظة ذاتها تخيلت كأني شاهدت ملاك المندائيين زيوا يطوف حول رأس ريكان.

تلك هي صورة الحرب يا حواء ، بدأت مفردة عابرة على لسانك وانتهت بهذا الحزن المؤثر في اجفان ريكان موظف الخدمة في مدرستنا .

بدأت بين اخوين وانتهت لتكون بين قريتين ومدينتين ودولتين وقارتين. وعليك أنت من تجد الحلول لأنكِ يا أمنا من اكتشفها ، واخترعها ايضا ، لأن قابيل أتى من رحمك انت ، والذي قتل ولد ريكان من رحم واحدة من احفادك. نحن سلسلة يا حواء مربوطة بتلك الاسئلة الاولى في ليل الحب والهمس بصريفة القصب ، حيث لم ينم جدنا ليلته لأنه عرف أن الحرب عكس الحب.

آدم الأول على وسادة التفكير الآن ، ربما اختلطت دموعه بدموع ريكان الذي انتحب دما لموت ولده ، المعدان لا ناقة لهم فيها ولا جمل .

لكنه تساءل : لربما في خطأ ولدي حكمة ، ولن تتحمل حواء ألم وتأنيب هذا الأثم .نحن نزلنا الى الأرض من أجل أن نؤسس عالما جديدا لن نستظل فيه تحت شجرة التوت فقط ، بل الاف الانواع من الشجر ، وكل ثمرة منها لن يقود الى خطيئة بل يساهم في تقوية البدن .

نزلنا حتى تختبرنا السماء أن كنا نستحق العودة ثانية الى الفردوس الذي جئنا منه .

لحظة والتساؤلات تتناثر هنا وهناك ، أتت حواء التي شعرت بحزن آدم .وفكرت ان تتوسد جسده الكهل وتطبع قبلة على جبينه لتستقر روحه وينام ، وحين اقتربت من سريره وجدته يغط في نوم عميق.

همست له وهو غافٍ .اتمنى ان يكون حلمك بدون سماء تتشاجر فيها الطيور.

تمددت قربه وغفت هي ايضا.

في الجانب الآخر من ازمنة المستقبل كان آدم الحفيد والقادم من ذات القرية التي استشهد منها ولد عامل الخدمة ريكان . يفكر بنضج حبال بضاعته من الباسطرمة حتى تصل الى النضج التام .

لقد صار الزبائن يسألون عن بضاعته ويرغبونها بفضل خلطة التوابل التي تضعها زوجته ، والتي تعلمتها من ابيها يوم كان نادلا في نادي الموظفين في مدينة الجبايش وكان يوصي عليها لتجلب من سوق الهنود في البصرة. وكانت كفيلة بإزالة رائحة عفونة اللحم وتبقيه بمذاق لم يألفه أهل تلكيف . وكانوا يعتقدون ان ادم جلب معه من قريته الجنوبية خلطة سرية من البهارات تجعل الباسطرمة لذيذة هكذا وعندما يسألونه عن الخلطة ؟

كان يرد : انهم هناك في قريته لا يجففون سوى السمك ومع الملح فقط ، ولكن زوجته هي صاحبة السر.

وحين يسألون زوجته عن سر الخلطة ومحتوياتها ؟

ترد : السر مع آدم.

وهكذا ضاع السر بين آدم وزوجته .وربما هذا السر هو السبب في توسع حانوته عندما اشترى حانوت جاره سمعان الذي كبر وتقاعد عن العمل وصار يجهز الحوانيت الاخرى في القرى والمدن القريبة ، ثم سمع اهل الموصل بجودة باسطرمته فأتوا يطلبون كميات منها ، وهكذا بدأت تجارة شبوط ( آدم ) تتسع عندما جاء اليه ذات يوم تجار لبيع الباسطرمة في اسواق كرادة بغداد يسألون عن بضاعته وإن كان بإمكانه تزويدهم بأي كمية ينتجها.

وكانت امنيته أن يجيء أحد من الجنوب وربما بعضهم من الناصرية ليشتروا من بضاعته ويسالهم خلسة إن كانوا يعرفون معلما إسمه ( نعمة ) يعلّم في مدرسة البواسل في أهوار الجبايش كي يتعرف على مصير والدته التي كانت تزوره في احلامه وتسأله بنحيب باكٍ:

لماذا لا تجيء يا شبوط وتزور أمك التي تحبك.؟

وبين الدمعة والاشتياق واحتراق السكارة بين اصابع آدم تتدخل زوجته لتتدارك ما يشعر به زوجها ويتمناه ، وتخبره بمفاجأة انسته كل شيء عندما قالت :إنها حامل .

يقفز منتشيا من الذهول والفرح ، يرمي السيكارة ويسحق علبة التدخين ، يرقص ويدور في ارجاء الغرفة ..يقفز على السرير ..يعانقها ويهمس لها :

تلك اجمل خلطة سرية تصنعينها من توابل حياتنا. لأنه انجب طفلا من امرأة شقراء.

( عبارة امرأة شقراء تعيد التخيل الى ذاكرتي  ، يوماً في هذه القرية التي لا تبعد سوى بضعة عشرات من الاميال عن القرية الاولى التي بناها آدم الأول حيث صنع لنا معلم التأريخ في مدرستنا التصور والقناعة أن حواء أمنا الأولى كانت بيضاء وشقراء أكثر من لمعان صحون القيمر تحت الشمس .

وعندما نسأله أن اغلب وجوه النساء في قريتنا سمراء ؟

يرد : المكان وتضاريسه وشمسه يغيران في ملامح الاجنة . )

عاش آدم الحفيد سعادة انه سينجب ولدا ، وأن امرأة بيضاء مثل حليب جاموستهم رعشة ستمنحه ولدا وهذه المرة سيتحدى رغبة زوجته ويضع ولده في سلة ويحمله الى امه ويطلب منها ان تقبل جبين الطفل لينال بركاتها ، وحتما مع فرحته بالولد ( يوشع ) إن كان ولدا ، ومريم إن كانت بنتا سينسيها حزنها وغضبها على ولدها لأنه لم يزرها كل هذه السنوات.

زرع بذرة

وعندما تسأله حواء : مريم اسم نحبه جميعا ، ولكن لماذا حين يكون ذكرا تسميه يوشع .

رد عليها : لأني في سري عندما كنت اتمنى ان ازرع بذرتي في احشائك الطيبة يا حبيبتي ـ كنت اطلبه من سيد كريم له مرقد مبارك بعيد عن قريتنا في الاهوار يدعى ( سيد يوشع ) .كل اهل الاهوار والمدن القريبة يزورونه ويطلبون منه البركات وتحقيق النذور وكنت ازوره في كل موسم مع امي وطالما حنيت جبهتي من طين ضفاف مياه الاهوار حيث يكون مرقد هذا السيد المبارك.

قالت :هو ولدك ، ربما هذا السيد المبارك منحه لك ، اما انا فطلبت مريم من امنا مريم وان كان ذكرا فأنا طلبته من القديس جرجيس.

لا نختلف جرجيس مبارك وسيد يوشع مبارك ، والاكثر بركة امنا مريم.

ضحكت وقالت : من اليوم سأخفف من اعمال البيت ولن اقترب لحبال الباسطرمة كي تملأني رائحة اللحم فأتوحم بالباسطرمة ويخرج يوشع طويلا ونحيفا وحانوتيا كابيه ، وهذا ما لا اريده .اريده طبيبا .

قال آدم : انا اثمناه معلما حيث لا شيء كان كبيرا وحلما لأيامنا القادمة مثل أولئك المعلمين الطيبين الذين كانوا يعلموننا في مدرسة القرية.

قالت :ليخرج من هذه البطن . والله كريم.

ضحك وقال وهو يحتضن زوجته : سيخرج حتما لن يبقى الى الابد.



Most Read

2024-09-24 15:35:42