Breaking News >> News >> Azzaman


‏البقية في حياتهم-رباح آل جعفر


Link [2022-05-25 08:45:52]



‏أنا‭ ‬حزين‭ ‬على‭ ‬أدبائنا‭ ‬وكتَّابنا‭ ‬الذين‭ ‬نغرقهم‭ ‬بالدموع‭ ‬بعد‭ ‬موتهم،‭ ‬ولا‭ ‬نوجه‭ ‬لهم‭ ‬التحية‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬عاجزين‭ ‬عن‭ ‬ردِّها‭. ‬لا‭ ‬بمثلها‭ ‬ولا‭ ‬بأحسن‭ ‬منها‭. ‬كأنهم‭ ‬لا‭ ‬يستحقون‭ ‬منّا‭ ‬الأسف‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬رحيلهم‭. ‬ولو‭ ‬أننا‭ ‬بكينا‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭ ‬لهانت‭ ‬عليهم‭ ‬ويلات‭ ‬الدنيا‭ ‬وأهوالها‭.‬

‏وحزين‭ ‬أكثر‭ ‬وأنا‭ ‬أراهم‭ ‬يموتون‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬لهم‭ ‬فخامة‭ ‬الجنازة،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬جنازة‭ ‬متواضعة‭ ‬تليق‭ ‬بأسمائهم‭. ‬ومن‭ ‬حسن‭ ‬حظهم‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬يرون‭ ‬من‭ ‬يسير‭ ‬في‭ ‬تشيِّيعهم،‭ ‬أو‭ ‬يحضر‭ ‬مجلس‭ ‬عزائهم،‭ ‬وإلا‭ ‬لكانت‭ ‬مصيبتهم‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬موتهم‭!.‬

‏ومهما‭ ‬كانت‭ ‬الجنازة‭ ‬متواضعة‭ ‬والوفاء‭ ‬نادراً،‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬ينقص‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬بدر‭ ‬شاكر‭ ‬السياب‭ ‬شيئاً‭ ‬وهو‭ ‬الشاعر‭ ‬الكبير‭ ‬أن‭ ‬أربعة‭ ‬أشخاص‭ ‬فقط‭ ‬ساروا‭ ‬في‭ ‬جنازته‭ ‬إلى‭ ‬مقبرة‭ ‬الحسن‭ ‬البصري‭. ‬

‏مثلما‭ ‬لا‭ ‬يقلِّل‭ ‬من‭ ‬مقام‭ ‬الشيخ‭ ‬جلال‭ ‬الحنفي‭ ‬العالم‭ ‬والعلامة‭ ‬أننا‭ ‬لم‭ ‬نجد‭ ‬أحداً‭ ‬يمشي‭ ‬في‭ ‬جنازته‭ ‬حتى‭ ‬توهم‭ ‬الناس‭ ‬أن‭ ‬النعش‭ ‬يمشي‭ ‬وحده،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬الحنفي‭ ‬يمشي‭ ‬وحيداً‭ ‬مع‭ ‬جنازته‭!.‬

‏ويوم‭ ‬مات‭ ‬الأديب‭ ‬مصطفى‭ ‬المنفلوطي‭ ‬لم‭ ‬يمش‭ ‬في‭ ‬جنازته‭ ‬سوى‭ ‬ستة‭ ‬أشخاص‭ ‬من‭ ‬أسرته‭. ‬فقد‭ ‬انشغلت‭ ‬مصر‭ ‬كلها‭ ‬بحادث‭ ‬اطلاق‭ ‬الرصاص‭ ‬على‭ ‬زعيمها‭ ‬سعد‭ ‬زغلول‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬نعاه‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ ‬قائلاً‭: ‬

‏اختـرتَ‭ ‬يــومَ‭ ‬الهـول‭ ‬يــومَ‭ ‬وداعِ

‏ونعاكَ‭ ‬في‭ ‬عصف‭ ‬الرياح‭ ‬الناعـي

‏مَنْ‭ ‬ماتَ‭ ‬في‭ ‬فَزَعِ‭ ‬القيامةِ‭ ‬لم‭ ‬يجدْ

‏قَدَمَــاً‭ ‬تشيِّـــعُ‭ ‬أو‭ ‬حفـاوةَ‭ ‬ساعـي

‏والشاعر‭ ‬سعدي‭ ‬يوسف‭ ‬حملوا‭ ‬جثمانه‭ ‬إلى‭ ‬مثواه‭ ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬مقبرة‭ ‬بلندن،‭ ‬وكانت‭ ‬الجنازة‭ ‬خالية‭ ‬منَ‭ ‬المشيّعين‭ ‬تماماً‭. ‬

‏وشاعرنا‭ ‬يوسف‭ ‬الصائغ‭ ‬انطفأت‭ ‬عيناه‭ ‬في‭ ‬دمشق‭ ‬ولم‭ ‬يشعر‭ ‬أحد‭ ‬برحيله‭ ‬ولا‭ ‬سار‭ ‬في‭ ‬جنازته،‭ ‬ولا‭ ‬نعاه‭ ‬اتحاد‭ ‬الأدباء‭ ‬ولا‭ ‬قال‭ ‬في‭ ‬رثائه‭ ‬كلمة‭.. ‬أما‭ ‬الشاعر‭ ‬عبد‭ ‬الرزاق‭ ‬عبد‭ ‬الواحد‭ ‬فكانت‭ ‬طريقة‭ ‬دفنه‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬غريبة‭ ‬ومؤلمة‭ ‬خلافاً‭ ‬لوصيته‭!.‬

‏وجنازة‭ ‬محمد‭ ‬حسنين‭ ‬هيكل‭ ‬كانت‭ ‬متواضعة‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬التشيّيع‭ ‬الرسمي‭. ‬فقد‭ ‬شاءت‭ ‬مصادفات‭ ‬الأستئذان‭ ‬بالانصراف‭ “‬للأستاذ‭” ‬أن‭ ‬يرافقه‭ ‬في‭ ‬رحيله‭ ‬بطرس‭ ‬غالي‭ ‬السياسي‭ ‬العتيد‭. ‬لكن‭ ‬لم‭ ‬ينقص‭ ‬من‭ ‬قدر‭ ‬باشا‭ ‬الصحافة‭ ‬العربية‭ ‬أن‭ ‬جنازته‭ ‬كانت‭ ‬أكثر‭ ‬تواضعاً‭ ‬من‭ ‬جنازة‭ ‬عميد‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬المصرية،‭ ‬وأن‭ ‬أركان‭ ‬الدولة‭ ‬لم‭ ‬يشاركوا‭ ‬في‭ ‬تشيّيعه‭.‬

‏والأديب‭ ‬الأيرلندي‭ ‬برناردشو‭ ‬نشر‭ ‬نعيه‭ ‬قبل‭ ‬وفاته،‭ ‬وطلب‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬يمشوا‭ ‬في‭ ‬جنازته‭. ‬وبعضهم‭ ‬كتب‭ ‬على‭ ‬قبره‭ ‬هذه‭ ‬العبارة‭: ‬لم‭ ‬يمت،‭ ‬ولكن‭ ‬دفن‭ ‬حيَّاً‭!.‬

‏وعبد‭ ‬الرحمن‭ ‬شكري‭ ‬الشاعر‭ ‬الرقيق‭ ‬اختفى‭ ‬عشرين‭ ‬عاماً‭ ‬وعاش‭ ‬سراً،‭ ‬ومات‭ ‬يوم‭ ‬اكتشفوا‭ ‬مكانه‭ ‬منزوياً‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬ولم‭ ‬يسر‭ ‬في‭ ‬جنازته‭ ‬أحد‭.‬

‏والشاعر‭ ‬الفرنسي‭ ‬رامبو‭ ‬مات‭ ‬وحيداً،‭ ‬وكتب‭ ‬رسالة‭ ‬إلى‭ ‬أخته‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭: “‬حياتنا‭ ‬بؤس‭ ‬بلا‭ ‬نهاية،‭ ‬فلماذا‭ ‬نحن‭ ‬موجودون‭”‬؟‭!.‬

‏والأديب‭ ‬الإغريقي‭ ‬سمونيدس‭ ‬اختار‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬على‭ ‬قبره‭ ‬عبارة‭ ‬تقول‭: “‬يا‭ ‬من‭ ‬يمرُّ‭ ‬إلى‭ ‬جوار‭ ‬قبري‭ ‬قل‭ ‬لهم‭ ‬إن‭ ‬المعذبين‭ ‬ناموا‭ ‬هنا‭”!.‬

‏وعلى‭ ‬قبر‭ ‬الشاعر‭ ‬الألماني‭ ‬الساخر‭ ‬هاينه‭ ‬بيتان‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬ترجمهما‭ ‬الأديب‭ ‬ابراهيم‭ ‬عبد‭ ‬القادر‭ ‬المازني‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى‭:‬

‏أيها‭ ‬الزائر‭ ‬قبري‭ ‬اتْلُ‭ ‬ماخُطَّ‭ ‬أمامَكْ‭!‬

‏ها‭ ‬هنا‭ ‬فاعلم‭ ‬عظامي‭ ‬ليتها‭ ‬كانت‭ ‬عظامَك‭!.‬



Most Read

2024-09-20 15:03:59