Breaking News >> News >> Azzaman


‏يا ليلة العيد آنستينا -رباح آل جعفر


Link [2022-04-27 09:16:20]



‏بعيداً‭ ‬عن‭ ‬الحزن‭ ‬أحاول‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬عن‭ ‬الفرح‭. ‬بينما‭ ‬القلب‭ ‬يغالبه‭ ‬الأسى‭ ‬على‭ ‬أهلٍ‭ ‬لنا‭ ‬وأصدقاء‭ ‬ماتوا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نشبع‭ ‬من‭ ‬رؤيتهم‭. ‬

‏قل‭ ‬لي‭ ‬ما‭ ‬المعنى‭ ‬أن‭ ‬تفقد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬عزيزاً‭ ‬على‭ ‬قلبك‭. ‬تتفقد‭ ‬مكانه‭ ‬على‭ ‬مائدة‭ ‬الإفطار‭ ‬فلا‭ ‬تجده‭. ‬تسأل‭ ‬عنه‭ ‬صباح‭ ‬العيد‭ ‬لكنه‭ ‬غائب‭. ‬لا‭ ‬ترى‭ ‬له‭ ‬صورة‭ ‬ولا‭ ‬تسمع‭ ‬له‭ ‬صوتاً‭. ‬أين‭ ‬يذهب‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأعزاء؟‭.‬

‏ما‭ ‬الذي‭ ‬سقط‭ ‬من‭ ‬قلوبنا؟‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬تركناه‭ ‬هناك؟‭ ‬لماذا‭ ‬يموت‭ ‬الوجه‭ ‬الجميل؟‭ ‬ولماذا‭ ‬تذبل‭ ‬الوردة‭ ‬الجميلة؟‭ ‬كيف‭ ‬ضاع‭ ‬من‭ ‬أقدامنا‭ ‬الطريق؟‭ ‬ولماذا‭ ‬الأشياء‭ ‬النادرة‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬ذكرى‭.. ‬والذكرى‭ ‬قصيرة‭ ‬العمر؟‭!.  ‬

‏حزنتُ‭ ‬وتألمت‭. ‬ولا‭ ‬أنسى‭ ‬كيف‭ ‬اهتزَّت‭ ‬أعماقي‭ ‬يوم‭ ‬وقفت‭ ‬آخر‭ ‬مرة‭ ‬عند‭ ‬سرير‭ ‬عزيز‭ ‬أبكاني‭ ‬فراقه‭. ‬كان‭ ‬ينظر‭ ‬في‭ ‬عينيَّ‭ ‬طويلاً‭. ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬لي‭ ‬شيئاً‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬وداع‭ ‬أخيرة‭. ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يقل‭. ‬أو‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬أن‭ ‬يقول‭. ‬وفي‭ ‬عينيه‭ ‬كلام‭ ‬كثير‭. ‬أصوات‭ ‬في‭ ‬أصداء،‭ ‬لقد‭ ‬ضاع‭ ‬المعنى‭ ‬وضاقت‭ ‬العبارة‭.‬‭ ‬تذكرت‭ ‬متأثراً‭ ‬قول‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭:‬

‏ألـومُ‭ ‬معذِّبـــي‭ ‬،‭ ‬فألومُ‭ ‬نفســي‭ ‬

‏فأُغضِبُـها‭ ‬ويـرضيـهـا‭ ‬العــذاب

ولـو‭ ‬أنَـي‭ ‬استطعـتُ‭ ‬لتبـتُ‭ ‬عنه‭ ‬

‏ولكنْ‭ ‬كيفَ‭ ‬عن‭ ‬روحي‭ ‬المتاب؟‭!.‬

‏في‭ ‬ليلة‭ ‬العيد‭ ‬كانت‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬تطربنا‭ ‬من‭ ‬أجهزة‭ ‬الراديو‭ ‬بأغنيتها‭ “‬يا‭ ‬ليلة‭ ‬العيد‭ ‬آنستينا‭”. ‬الله‭ ‬يا‭ ‬سيِّدي‭ ‬الله‭. ‬وفي‭ ‬تحيّة‭ ‬العيد‭ ‬وجوابها،‭ ‬تقول‭ ‬لصاحبك‭ ‬بحفاوة‭: ‬أيّامك‭ ‬سعيدة‭. ‬ثم‭ ‬يأتي‭ ‬العيد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬مرتين‭ ‬ولا‭ ‬تأتي‭ ‬السعادة‭. ‬ومن‭ ‬يشرب‭ ‬بحراً‭ ‬من‭ ‬الأكدار‭ ‬لا‭ ‬يقول‭ ‬إنه‭ ‬شرب‭ ‬ماء‭!.‬

‏وبرغم‭ ‬أن‭ ‬العيد‭ ‬فرح‭ ‬وبهجة،‭ ‬فإن‭ ‬المكان‭ ‬الجميل‭ ‬الذي‭ ‬يجد‭ ‬الناس‭ ‬راحتهم‭ ‬في‭ ‬زيارته‭ ‬أيام‭ ‬العيد‭ ‬هو‭ ‬المقبرة‭. ‬إنهم‭ ‬يلثمون‭ ‬الشواهد‭ ‬كأنهم‭ ‬يلثمون‭ ‬خدود‭ ‬الحبيب،‭ ‬ويبحثون‭ ‬بين‭ ‬القبور‭ ‬عن‭ ‬فردوسهم‭ ‬المفقود‭. ‬

‏لقد‭ ‬هان‭ ‬عندهم‭ ‬الزمان‭ ‬وهان‭ ‬المكان‭ ‬إلا‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭. ‬فيذهبون‭ ‬ويبكون‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ذكرى،‭ ‬وكل‭ ‬حجر،‭ ‬وكل‭ ‬حبيب،‭ ‬ويعلمون‭ ‬أن‭ ‬أحداً‭ ‬لا‭ ‬يسمعهم‭ ‬هناك‭.‬

‏وشاعرنا‭ ‬الكبير‭ ‬شوقي‭ ‬يقول‭ “‬وتهون‭ ‬الأرض‭ ‬إلا‭ ‬موضعا‭”. ‬كأن‭ ‬هذه‭ ‬الأحجار‭ ‬حائط‭ ‬المبكى‭. ‬يبكون‭ ‬عندها‭ ‬وحولها‭. ‬أو‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬الشاعر‭ ‬القديم‭: ‬أقبّلُ‭ ‬ذا‭ ‬الجدارَ‭ ‬وذا‭ ‬الجدارا‭!. ‬

‏في‭ ‬الأيام‭ ‬الخوالي‭ ‬كانت‭ ‬مدينتنا‭ ‬حديثة‭ ‬مثل‭ ‬باقي‭ ‬المدن‭ ‬لا‭ ‬تطفئ‭ ‬الأنوار‭ ‬ليالي‭ ‬العيد‭. ‬وكنَّا‭ ‬ونحن‭ ‬أطفال‭ ‬نجد‭ ‬متعة‭ ‬عظمى‭ ‬عندما‭ ‬نسهر‭ ‬حتى‭ ‬مطلع‭ ‬الصبح‭ ‬حين‭ ‬يبدأ‭ ‬القراء‭ ‬بالتمجيد‭ ‬لصلاة‭ ‬العيد‭ ‬والتلاوات‭ ‬في‭ ‬المآذن‭ ‬بأنغام‭ ‬المقام‭.. ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬ينام‭ ‬مبكراً‭ ‬يحلم‭ ‬بالعيديات‭ ‬من‭ “‬الدراهم‭” ‬يدسُّها‭ ‬في‭ ‬جيبه،‭ ‬ويفكر‭ ‬طول‭ ‬الليل‭ ‬ماذا‭ ‬يشتري؟‭. ‬كانت‭ ‬النفوس‭ ‬صافية‭ ‬والتعايش‭ ‬سهلاً،‭ ‬بلا‭ ‬زعل‭ ‬ولا‭ ‬أحقاد،‭ ‬لا‭ ‬الذي‭ ‬في‭ ‬القلب‭ ‬ولا‭ ‬الذي‭ ‬وراء‭ ‬القلب‭. ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يُبقي‭ ‬على‭ ‬المودة‭ ‬والمحبة‭ ‬بين‭ ‬الناس‭. ‬

وكان‭ ‬أهل‭ ‬حديثة‭ ‬يخرجون‭ ‬ثاني‭ ‬أيام‭ ‬العيد‭ ‬من‭ ‬المدينة‭ ‬بثيابهم‭ ‬الزاهية‭ ‬على‭ ‬الدراجات‭ ‬الهوائية،‭ ‬أو‭ ‬سيراً‭ ‬على‭ ‬الأقدام‭ ‬في‭ “‬يوم‭ ‬الزيارة‭”. ‬وكانت‭ ‬هذه‭ “‬الزيارة‭” ‬تعني‭ ‬أنهم‭ ‬ينزلون‭ ‬في‭ ‬وادي‭ ‬الشيخ‭ ‬حديد‭ ‬عند‭ ‬أطراف‭ ‬المدينة‭. ‬فينقل‭ ‬الباعة‭ ‬بضائعهم‭ ‬في‭ ‬عربات‭ ‬صغيرة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تحمل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬النساتل‭ ‬والشكر‭ ‬لمه‭ ‬وشربت‭ ‬زبيب‭ ‬والألعاب‭ ‬البسيطة‭ ‬وبعض‭ ‬التوابل‭ ‬والبهارات‭. ‬ثم‭ ‬انقرضت‭ ‬هذه‭ ‬التقاليد‭ ‬مع‭ ‬الأسف،‭ ‬واندرست‭ ‬الأمكنة،‭ ‬وامتلأت‭ ‬الوديان‭ ‬مثلما‭ ‬البساتين‭ ‬بالشوك‭ ‬والعاقول‭.   ‬

‏أكانت‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬جميلة؟‭ ‬ربما‭!. ‬أكانت‭ ‬مجرد‭ ‬صرخة‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬واد؟‭ ‬أكانت‭ ‬أوهاماً‭ ‬وأمنيات؟‭ ‬كل‭ ‬الصرخات‭ ‬في‭ ‬الوديان‭ ‬بلا‭ ‬صدى‭!.   ‬هل‭ ‬أنا‭ ‬حزين؟‭ ‬نعم‭ ‬حزين‭.. ‬ولا‭ ‬أمل‭!.‬



Most Read

2024-09-20 18:34:10