الغرفة الأولى
هي ذلك المربع الصغير المعلق بالزاوية الشمالية المتطرفة من جبل القلعة الشهير ، وهي باب الطريق المفتوح على جبل الحسين إن شمّلت قليلاً صوب خشم بناية البنك المركزي العالية ، ونحو قلعة هيروقليدس لو رميت خطوك يميناً من أعطار بقالة الغلاييني التي كان خبزها وطعامها الرخيص ودفتر الديون هو الممول الرحيم المتاح لكائنات تلك الغرفة الضاجة بالصعاليك الأدباء الفارين من جوع العراق المريض .
يقوم على المكان طعاماً وسقاية وفراشاً وطمأنينة إثنان هما الشاعر الطبيب عبود الجابري والمصمم الفنان فاضل جواد ، وهذان الكائنان الطيبان كانا قد فتحا باب المكان لمن يدقه ، وكان من هؤلاء الطارقين الشاعر حسب الشيخ جعفر الذي لم يستعمل يده ولسانه في عملية الطرق بل أناب عنه في ذلك الأمر الصعب نصيف الناصري وهادي الحسيني .
أكلنا وشربنا وسهرنا وسكرنا وتشاجرنا فيها سنوات كثيرة ، حتى بدل حسب وجهته بقوة المصادفة الحسنة ، إلى مسكن عجيب آخر مزروع بوشل جبل اللويبدة المطل بصعوبة على ضجيج ونعم وسط عمان البديع، وصحن هاشم وصوت أبي عرب المتاح للعابرين والسائلين الذين في جيوبهم الرثة عطب يكاد يصيح .
بيت عتيق مهجور لا أحد حتى اللحظة قد عرف مالكه ، وهو يتألف من جمع غرف صارت إحداها ملاذاً آمناً لأبي نؤاس وجان دمو وأياد صادق وهادي الحسيني ، أما ما تبقى من جغرافيا هذا النزل البستان فتوزعت على رضا ذياب وعلي منشد وكاظم الحلاق وزوار ليليين طارئين استأنسوا البيت الذي كان صامتاً قبل تلك الغزوة الرافدينية المباركة .
سكن مذهل من دون فواتير كهرباء وماء ومحنة إيجار رأس الشهر ، وأشجار الليمون والتين واللوز هي الاخرى كانت تؤدي دورها بامتنان عظيم يخفف من لذعة عرق الموال الرخيص وسجائر كريم وبريمز النحات أياد صادق ، وعشاء العوافي المصنوع من خبز الطابون المنقوع بمرق يحصل على دسمه التام من بقايا عظام الخروف وأقفاص الدجاج المشتراة برخص التراب من دكاكين سقف السيل ومقتربات الجامع الحسيني ، وطماطة وبصل وبطاطة من آخر صياح عربات المساء المتعجلة .
أما غرفة الشاعر الثالثة العجيبة الرهيبة فكانت لحسب وولده محمد فقط، وكان زائرها بحاجة إلى خريطة استكشافية كي يدخلها بأمان من دون أن تتعثر قدمه بعتبة مثلومة كما حدث معي ذات ليل جميل كان ناقوطه مثل بكاء الكاظمين ، وهي تطل على مشهد وادي السير الجميل وكان حجمها وجوها مشتقاً من غرفة عبود وفاضل الأولى .
هناك تحرر أبو نؤاس من الغزوات المباغتة والضيوف الثقلاء الذين لم يستوعبهم مزاج حسب المائل إلى الإنغلاق والعزلة التي تشبه قصيدة عصية شاسعة لا نهاية لها أبداً .
الآن أتعبني التذكر وهدَّ حيلي معول نبش الذاكرة .
سأكتفي بهذا القدر وقد أعود ثانية !!
2024-09-21 03:46:08