Breaking News >> News >> Azzaman


لعله بعض العزاء


Link [2022-04-14 09:17:56]



لعله بعض العزاء

الإعتياد على التمجيد يطمس التجديد

 نادية هناوي

العلماء من ذوي الريادة وأصحاب المشاريع الفكرية الكبيرة والتجارب المتميزة ليسوا كثراً، وهم على قلتهم لا يحظى سوى القليل منهم بما يناسبه من التقدير والاهتمام. وينطبق هذا الحال على علمائنا القدماء كما ينطبق على علمائنا المحدثين. والسبب ليس التكاسل والاكتفاء بالتنويه حسب وانما أيضا الاعتياد في التمجيد لاسم معروف او اسمين او قل ثلاثة حتى أن الأمر قد يتحول من كثرة التكرار والاجترار الى التصنيم في الاعم الاغلب. كنوع من المحبة الطاغية وربما المغالية التي بها يحول الممجدون احتفاءهم بالاسم العلمي الى معيق من معيقات تجاوزه الى تمجيد غيره مما لم نتعارف على علمه او نتأكد بعد من حقيقة منجزه فلا نعرف المترجم منه الى العربية من غير المترجم كي نضعه في جدول تمجيداتنا وتحميداتنا( الإعلامية).

والمحصلة إجلال القلة من العلماء وعدم الاكتراث بعلماء غيرهم غابوا عنا أو تغربوا، ومن ثم يضمحل أثرهم ويتلاشى ذكر انجازاتهم من قبل مؤسساتنا الرسمية وغير الرسمية التي هي اصلا تهمل أرشفة عطاءات باحثينا ومفكرينا من ذوي الجهود الكبيرة والمميزة والمشهود لهم بالتقدير والسمعة العلمية عربياً وعالمياً.

وقد يكون لفاعلية ما في عالمنا العربي من تلازم قوي بين السياسة والثقافة دور مهم في عدم الاكتراث ذاك وعلى الأصعدة كافة، وأهمها الصعيد الإعلامي فتتضخم أسماء شخصيات معينة في الصحف والمجلات والفضائيات، وتسوق على حساب غيرها حاجبة عنا أعمال سواها ومنجزاتها التي قد تكون حاجة ثقافتنا إليها كبيرة.

وهو ما يدلل على الانغلاقية الثقافية والتقصير التاريخي في تقدير كفاءاتٍ ذات فرادة من أعلامنا العرب، فتظل المشاريع والابتكارات رهنا لا بما تستحقه أو تقدمه من خدمة للإنسانية، بل بما للإعلام من دور في تعريفنا.. هكذا نبقى في دوامة الإتباع والتقليد وتظل العلمية بعيدة عن توجهاتنا وسلوكياتنا.

ومن الاسماء العلمية التي طال النسيان عطاءاتها العالم العراقي الدكتور محسن مهدي1926 – 2007) ) الذي لفّ الصمت مؤسساتنا إزاء ما حظي به من صيت وتقدير عالميين وما تمتع به من فكر علمي وتنويري، دللت عليه مختلف كتبه ودراساته وأهمها كتابه (الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية) الذي قال عنه المفكر الأمريكي تشارلز بترووردث:( يقدم محسن مهدي في كتابه هذا عرضا شاملا جديدا تمام الجدة لتعاليم الفارابي في حقلي الملة والعلم المدني (السياسة) وهو يقوم بهذا العمل متحليا بفهم عميق وتبصر فلسفي مستند إلى عقود من البحث الأكاديمي والى ما حققه من مخطوطات وكذلك إلى إعادة اكتشافه لمجال الفلسفة المدنية الوسيطية في التراث الإسلامي ولمركز اهتمامها)

اقلام بحثية

والغريب ليس النسيان وإنما الاستكثار على الذي يريد أن ينصف هذا العالم ويحض المهتمين والدارسين على أهمية أن يوجهوا أقلامهم البحثية ويطوعوا ما لديهم من أدوات وما يملكونه من منهجيات في سبر أغوار فكر محسن مهدي علما وريادة. لكن بدلا من الاستجابة له والإشادة بجهوده تجد من يتمظهر بالعكس أعني أن يتناسى أمر الدراسة العلمية والمنهجية ويهتم بأمر التهليل الاعلامي. وكأن الإعلام صار هو رب المعرفة عندنا واساسها الذي عليه يقوم بنيانها. ولعله الفانوس السحري الذي ما أن يفركه الطامحون حتى ينالوا ما يريدون وما يطمحون من شهادات وأستذة ودكترة ومناصب عامة وغير عامة وأعطيات بالوان وطعوم شتى ورئاسات لم يحلموا بها وتكريمات على قدم وساق .. وهلم جرا. وما دام واقع الحال يؤكد أن (الاعلام الصحافي والفضائي) صار يحتل عندنا الاولوية بدل المعرفيات، فان من الطبيعي أن تشيع هذه السياقات ويصبح أي شيء نريد بلوغه نهلل له إعلاميا وباساليب مختلفة تارة في شكل ندوات تُقرأ فيها وريقات على مسامع أنفار غير متخصصين وبطريقة إعلامية تنتهي بتوزيع وريقات شكر تلتقط خلالها صور ترسل الى الجرائد ليثبت الظن ويتأكد الشك بأن فلانا( باحث ) وتارة أخرى في شكل فعاليات واستذكارات تجري بين عقد وعقد من الزمان وينتهي أثرها بانطفاء المناسبة. وحين أشرت إلى الغبن الذي لحق بهذا العالم العالمي العراقي الأصل والمنبع والنشأة مؤكدة سبقي في الاهتمام بعطاءاته علميا لا إعلاميا وأهمية هذا السبق في توجيه الباحثين الى دراسة علمه تنبيها الى خطورة الغبن الذي عصف بمنجزاته، لم أكن أتصور ولم يخطر ببالي اطلاقا أن أحدا سيعمد إلى نفي أمر الغبن ويسعى بكل ما أوتي من قوة إلى أن يثبت العكس ذاكرا موضوعا كان قد كُتب ذات حين هنا وآخر منشورا هناك على مدى عدة عقود جرى فيه التطرق الى جهود هذا العلامة ويجدها كافية لنفي الغبن والحيف. نعم كان لاستاذنا باسم حميد حمودي الذي تعلمنا منه الكثير ــ وما زلنا نتعلم منه وفضله كبير على الثقافة العراقية في ميادين مختلفة حتى لا يمكن حصر عطائه في ميدان واحد وبخاصة في مجال الثقافة والتراث الشعبيين ــ الاستاذ باسم عبد الحميد تناول جهود العلامة محسن مهدي في كتابه (سحر الحقيقة: شخصيات وكتب ودراسات في التراث الشعبي ) في معرض البحث في التراث الشعبي. والكتاب الصادر عام 1999 بحث في جهود عدد كبير من العلماء والاعلام العراقيين الرواد وفيه ايضا تطرق الاستاذ حمودي الى كتّاب آخرين من جيل لاحق ومن ثم لم يكن الامر خاصا بالعلامة محسن مهدي الذي كانت الاشارة الى جهوده في معرض موضوع الكتاب ثم عاد الاستاذ باسم حمودي لينوه عن محسن مهدي _بعد عشر سنوات بالضبط- من خلال نشره موضوعا عن تكريمه من لدن الجامعة الأمريكية في القاهرة بمنحه دكتوراه فخرية.

مناسبة جديرة

ولا شك في أنها مناسبة جديرة بالاشادة بعقله النيّر الخلاق وهي بالتأكيد موضع فخرنا وغبطتنا ولكن تكريم علمائنا من قبل غيرنا لا يغفر لنا اهمالنا لهم. وحري بنا أن نبادر الى ذلك. واحتفاء الجامعة الأمريكية بجهود محسن مهدي العلمية كان ضمن تكريماتها للعلماء بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيسها.  وقد اثار استغرابي ذكر مقال في مجلة العربي الكويتية صادرة قبل ما يقرب من عقدين وتحديدا بعد عام واحد من وفاة العلامة الجليل أو عرض حوار أُجري معه أو صفحة من بحث نشره في مجلة عربية عام 1974 أو صورة لجريدة فيها متابعة لخبر تكريمه في الجامعة الامريكية فهل هذه منة لاحد عليه؟! انه تشريف لاي مجلة ان يرسل لها أبحاثه وأي جريدة أن تنشر أخباره. أو أن يشار إلى بحث منشور تحت باب( شخصية العدد) عن محسن مهدي في مجلة أدبية نُشر قبيل شهور من نشري سلسلة مقالات متتابعة وفي فترة زمنية واحدة ـ هي شهر واحد فقط ـ خصصتُ بها العلامة محسن مهدي وأولها( محسن مهدي العالم العراقي المنسي) وقبل ذلك ما ذكرته في كتابي( نقائص ونقائض علي الوردي في الميزان) عن اهمال الدكتور علي الوردي له وأخذت عليه تناسيه محسن مهدي وأستاذ آخر سبقه في التخصص بعلم الاجتماع هو عبد الفتاح إبراهيم. تلت تلك المقالات دراسات منشورة في مجلات عربية وبهدف واضح ونية بينة هي رفع الحيف والاهمال عن هذا العالم العراقي. ولقد كان ما كتبته حول مؤلفاته حافزا لمجلة عربية رصينة هي( نزوى) أن تلتفت الى جهد هذا العالم، فشرفتني بالتكليف للكتابة عنه وما كتبته ليس بالكثير عليه ولا هو كاف لايفائه حقه من الاهتمام.. علما أن الجزء المهم من علم محسن مهدي لم ترصده أقلام الباحثين، كونه ما زال مخطوطا او منشورا بالانجليزية وفي دوريات امريكية تحتاج الى جهد مؤسساتي لترجمتها وهو ما أكدته في منشوري على حسابي في الفيسبوك يوم 30 اذار 2022. ويبدو( والحمد لله) أنه وصل مسامع المؤسسة الرسمية فوعدت بتبني ترجمة اطروحة محسن مهدي إلى العربية. وأؤكد ثانية أن ظهور مقالة هنا وأخرى هناك وعلى مدد متباعدة ليس منة ولا يعد انصافا لعالمنا الكبير ولا يغير حقيقة الحيف الذي لحق به.

وقلتها بدءاً وأقولها الآن ( الحمد لله ) أخيرا أن ذكرته المؤسسة الرسمية .. أ في هذا بعض العزاء؟ لعله !!.



Most Read

2024-09-21 10:41:56