Breaking News >> News >> Azzaman


صيام مزدوج – ياس خضير البياتي


Link [2022-04-03 21:33:13]



صيام مزدوج – ياس خضير البياتي

رمضان مبارك على الجميع لمن صام عن الكره والنفاق والنميمة والحقد. وخلق التوازن بين تحقيق فريضة الرب وبين فريضة تنقية النفس من الشوائب العالقة في الخلايا. لأن الصيام ليس منّة لتباهي العبد لاستعراض منجزاته الدينية أمام الآخرين، ولا شجاعة دينية لأثبات الإيمان والتقوى أمام الملأ، وإشباع الغرائز والرغبات لرفع منسوب النرجسية..     يخطأ من يقول إن شهر رمضان فريضة تمارس من اجل تفريغ المعدة نهارا، وملئها ليلا، أو النوم نهارا، والقيام ليلا بالصلاة. بل هو ممارسة لتدريب النفس على تَحمُل صبر معاناة الزمن، والإيثار والتضحية، وتصفية الأبدان من شوائب الأحقاد، وتنشيط الدورة الدموية من اجل القضاء على أكسدة الدم الفاسد في نفوسنا، ونقل الأوكسجين النقي إلى عقولنا. بل هو فرصة لعلاج تصلب شرايين الشر الذي يتراكم في جدران حياتنا ليمنع تدفق الخير في أوعية السلوك.

سأقول كلاما صريحا، لقد أصبح شهر رمضان اليوم عادة اجتماعية بلا محتوى إيماني وتعبدي؛ ذهبت عنه روح المعنى الأصيل للتدين الحقيقي، والفطرة الإنسانية البسيطة التي كانت متعلقة بعقول الأقدمين. فقد كانت موائد رمضان تجمع الأهل والجيران على محبة الألفة والتضامن الاجتماعي. فالحي يتحول إلى أسرة واحدة تتبادل المحبة مع صحون الكرم، حيث فطرة العبادة والتعبد تسكن في البيوت سرا، والق العشرة الاجتماعية تشتعل وهجاً في الأمكنة الشعبية.

لا أدرى لماذا يذكرني قدوم رمضان اليوم برمضان الأمس، حيث الهيام بأجوائه وطقوسه ولياليه الساحرة، وألقه الاجتماعي، وأناشيده البسيطة (ماجينا ياما جينا حل الكيس وأنطينا)، وطبول (المسحراتي)، وألعاب رمضان الجماعية (المحبيس). ربما الشعور بالجو الاحتفالي المقترن بحرارة العيش والانتماء، وحرارة المحبة بين أسر الحي الواحد، وتسابقهم بتوزيع وجبات الفطور حتى تجد في بيتك رائحة طعام كل عائلة، فتحتار أي نوع تأكله، واي شراب تشربه.

ياله من شهر جميل، وزمن أجمل يرتفع فيه منسوب الفضيلة والاحترام لشهر رمضان الذي يؤلف قلوب الناس، ويكون عصيرا لذيذ المذاق والمعشر، ومنعشا بأيامه، وطقوسه البسيطة، والق لياليه، وحميمته المبهرة بصدق العلاقات والتقوى.

ولحنين الماضي فلسفات ونظريات عديدة، فالماضي أساسه سيكولوجي، يطلق عليه مصطلح النوستولوجيا، وهو الحنين إلى الماضي المثالي، حيث الشعور بالآمان النفسي والراحة والاطمئنان بالعيش في الماضي (يوهانس هوفر). كما إن استدعاء الماضي والعيش فيه هو حالة التأزم مع الحاضر واللحظة الآنية (تقي الدين المقريزي) بينما يراه البعض مرضا يعيق نمو الأمل، فيصبح الانسحاب من الحاضر أسلوب حياة. فالسعادة ليست هروبا من الواقع ومآسيه، إنما التحرر من تأثيره فينا وسيطرته علينا (برترناد رسل). وبمعنى آخر، فأن النظر إلى الماضي كأنه فيه المثالية والبركة “أيام زمان واهل زمان، أيام راحة البال”، وهي صوّر متخيلة للماضي الجميل والأصيل المصحوب بالتبكيت والممزوج بالحسرة.

شخصيا، لست معنيا بالماضي كاثار حياة لزيارته والبكاء على أطلاله، فالماضي له عيوبه، كما له جوانبه الإيجابية. لكنني هنا أصف حالة إنسانية دون الغاء الحاضر ومتغيراته. أحاول توصيف قيم إنسانية إيجابية مرتبطة بالعلاقات الاجتماعية الراقية التي بدأت تنخرها شرور التعصب العنصري والديني والطائفي والقومي. لأن رمضان ليس مجرد طقوس وعبادة مُجرّدة من قيم المحبة والتآلف والتسامح، فهو خزان لفضائل الخير والعطاء.

لنعترف أن رمضان أصبح اليوم شهرا عاديا مثل كل الأشهر، حيث غابت عنه دورة فضائل التسامح والمحبة، وفُقدت عن أيامه احترام قيم الآخر، وسلوكيات الشهر الفضيل، وصار شهرا للتباهي وثرثرة النفاق، وتحولت مساجده إلى أبواق للسلطة وأثارة الكراهية. وصار بعض الناس يجتمعون على موائد الصيام بالمال الحرام، ويسهرون على برامج تلفازية تثير الأحقاد والعنف والفتن، أو نبش التاريخ والطوائف والأديان، أو مشاهدة مسلسلات تمتلئ بالدعارة والشذوذ والمخدرات وإثارة الغرائز البدائية. مثلما أصبح سحوره في خيم ومقاهي الدخان والشيشة علامة فارقة.

لست واعظاً دينياً، ولن أُكفّر أحداً، سواء كان صائما أو مفطرا، لكنني أتمنى أن يكون رمضان شهرا لتهذيب النفوس، ومفتاحا لفتح أبواب المحبة وتآلف القلوب، وليس شهرا للفتن والبغضاء، والتنابز بالألقاب المبتذلة. وما أكثر الدروس والعظات التي يمد بها رمضان، فهو شهر الصبر والتسامح، وتنقية الجسم من الأدران وسموم الحقد، والصوم عن النفاق والنميمة، والابتعاد عن الصيام المزدوج؛ معدة فارغة تلبي نداء الرب، وعقل يكهرّب الحياة بجيَف الواقع المزرى.

yaaas@hotmail.com



Most Read

2024-09-22 00:33:10