Breaking News >> News >> Azzaman


قصتان قصيرتان


Link [2022-04-02 00:14:22]



حيدر المحسن

قصتان قصيرتان

حيدر المحسن

سلاح

عبدٌ بلا سلاح كالطّير بلا جناح*

(منقوش على خنجر قديم)

في ذلك الأصيل الذي جعله الحَرّ مائلاً إلى البياض كان المدعوّون إلى الحفل يتوافدون دون انقطاع، وجوه ووجوه تنظر إلى الفتى “عامر”، وتبتسم عيونهم قبل أن تبتسم الشّفاه، وبلغ عدد المهنّئين أكثر من 1500 رجل، مع أنّ الفتى لم يكن ابن رئيس العشيرة، أو أحد أقاربه.      كالعادة، أخذ “عامر” يؤدّي الرّقصة الخاصّة بهذه المناسبة، ويلاعب رمحين في يديه، يرميهما إلى الأعلى، ويتلقّفهما بسهولة، ثمّ أسرع في رقصته، وعازفا الرّبابة والمزمار يحاولان أن يلحقا بقفزاته على الرّمل الذي أحرقته الشّمس بلهيبها. كان الفرسان يجولون ويلعبون برماحهم وسط النّيران مشتعلة، ورايات العشيرة ترفرف، والطّبول والدّبادب تعزف. ومع أن الرّقصة بدت كأنّها لن تنتهي، لكن الفتى قطعها فجأة وجلس على المقعد المخصّص له، وثبّت الرّمحين شاقوليًّا على مقدمي قدميه، وسكتت الموسيقى، وكفّ الجميع عن التّصفيق، وكان الفتى يودّ أن يقول شيئاً، لكنّه ظلّ صامتاً، وقد بدت سمرته الخفيفة سعيدة في ضياء الشّمس القّوي، كذلك عيناه الواسعتان واليقظتان، وشاربه الخفيف الذي يزيّن وجهه.                  في هذه الأثناء كان (المُطهِّر) يحضّر أدواته، والنّساء يطلقن الهلاهل، ورايات القبيلة الحمراء ترفرف في الرّيح. أمسك المطهّر بأصابعه المغطّاة بكشتبانات جلديّة عضوَ الفتى الذكريّ، وفرش الغُلفة على حافة صفيحة معدنية. صاح الفتى، وهو يغرز الرّمحين في مقدمي قدميه كي يكبح حركتهما: قطع، لا تخف. فأنا عامر بن محمد بن عمر بن علي بن جاسم بن محسن بن كريم…”.              وظلّ يصرخ بأسماء أسلافه، لدى كلّ اسم ينشأ هتاف للحاضرين تطفر أنغامه مع هبّة حماس إضافيّة يحسّ بها الفتى، حتى بلغ الجدّ العشرين، وقطع المطهّر الجلدة من عضوه بضربة واحدة. لم يطلق ولا آهة. بالعكس، كان مبتسماً، ويشعر بأنّ إحساساً جميلاً يخنقه، فإنّ مذاق هذه اللّحظة يتشهّاه منذ زمن بعيد، وهو ما يبحث عنه الآن تماماً. لقد صار في عُرف العشيرة رجلاً يحقّ له حمل عدّة الحرب.    جاء أترابه ورفعوا الغُلفة وسط إطلاق الرّصاص الكثيف، وعلّقوها في رأس رمح مزيّن بألوان من الأقمشة والأغصان والأزهار. ظلّ الفتى يتأمّل المشهد، وصارت سمرته من شدّة الحماس حمراء كاللّهب. أغمض عينين مترعتين بدموع السّعادة، وفتحهما على عالم جديد يدشن العيش فيه الآن، عالمٍ لا يخاف فيه من أيّ شيء أبداً، لأنه صار يحمل السّلاح.

أخذ الجميع يرقصون، ورئيس العشيرة يتأمّل المشهد من مجلسه بالقرب من الفتى، ومن أبيه. دقائق، وبدأوا بتقديم العشاء.

يا لَلفرح! يا لَلفرح المُنفَلتِ في أعالي السّماء!

العبد: الإنسان حرّاً كان أم مملوكا.

باز

قصد الغريب أوّل بيت في القرية، واستقبله راعي البيت بالتّرحاب. هناك فناء يغصّ بكلّ أنواع الحيوانات الدّاجنة، والبيت عبارة عن غرفة مبنيّة من الزّلط والطّين، يأكلون فيها ويطبخون وينامون، الزّوج والزّوجة والبنتان والصّبيّ والجواري الثّلاث، بالإضافة إلى الأقارب والأصدقاء، وكانوا يدخّنون ويقضون سهرتهم مع فناجين القهوة. كان الغريب جائعاً، وقدّموا له الطّعام، ثم مدّوا له فراشه على الأرض. القرويّون، لأنّهم اعتادوا على الصّياح في البريّة، يتكلّمون بأصوات عالية. ورغم ذلك، غرق الغريب في النّوم. أيقظه صوتَ أزيز رفيع يأتي من النّافذة. هل تراه صوت صُرار الحصاد؟ ثم تناهى إلى سمعه صياح ديك أجاب عليه ديك آخر بصياح مثله. النّجوم تتخلّلها النّجوم فيما يبدو القمر غائباً. غفا الغريب ثانية، ورأى في ما يرى النّائم أنه كان يتوضّأ من النّهر، وإذا بتفّاحة يحملها مجرى النّهر. فقال: هذه من فاكهة الجنّة، وأكلها. في تلك الوهلة كان صاحب البيت يطمئنّ على راحة ضيفه، ولمّا سمع شخيره يعلو، عاد إلى النّوم. رأى في الحلم أن إحدى نخلاته حملت عذقاً تمره من الذّهب، وكان يجنيه، ويحمل العذق في اليوم التالي الذّهب ثانية. فلما حلّ اليوم الثّالث حلّق باز أشهب في السّماء، وانقضّ على النّخلة، وقطع العذق، وطار. في الصّباح غادر الغريب مبتهجاً. كان يلوك طعم تفّاح الجنّة في فمه، تاركاً صاحب البيت يتمرّغ في تعاسته، خائفاً مما سوف يجلبه كابوس اللّيلة الفائتة من ويلات.



Most Read

2024-09-22 04:35:57