Breaking News >> News >> Azzaman


مفاتيح راحة النفس وهداية الروح – لويس إقليمس


Link [2022-03-19 23:53:54]



مفاتيح راحة النفس وهداية الروح – لويس إقليمس

لا شيءَ أفضل من الركون في زاوية وحصر التفكير في النفس وفي مصيرها لدقائق معدودات.

فمن شأن هذه الخطوة أن تُسهّلَ للكائن البشري التأمّل لوهلة بحالِه في استذكار الماضي وتقرير اللاحق ممّا تبقّى من حياته في ضوء عيشه الحاضر، مهما كانت طبيعة وشكل هذا الأخير.

ولا غرابة أن نشهد حالات من الانزواء في زوايا المعابد والجوامع والكنائس والأديرة لأشخاصٍ دخلوا في غيبوبة التفكير والتأمل العميق بحثًا عن الأمان والسلام والسعادة وراحة البال للحظاتٍ أو ساعاتٍ بعيدًا عن مشاكل العالم وضوضائه في حوارٍ مع خالق الأكوان وفاحص الكلى والقلوب وجامع المتعبين والمهمّشين وأصحاب الحوائج. فهذه اللحظات هي من اسعد الأوقات لمَن يمنّي النفس بالاختلاء ومحاسبة الذات ولو لفترة.

بل مثل هذه الخطوة، شخصية كانت أم جماعية، تقود البشر للاغتناء بالكثير من المعاني والأحاسيس التي تؤمّنُها أعمدة ثلاث في حياة الإنسان الملتزم: “الصوم، والصلاة والعطاء”. فكلّ واحدةٍ من هذه السمات الثلاث لها قيمُها ومفاعيلُها وأدواتُها ونتائجُها في حياة الإنسان على الصعيد الشخصي والمجتمعيّ والعلاقة مع الله الخالق.

إنّ السعادة الحقيقية ليست في المتعة الوقتية. كما أنها ليست هدفًا بقدر ما هي وسيلة للإنسان لعيش حياته بصورة طبيعية ومقبولة وسط زحمة المشاكل والمصاعب والاهتمامات. وما أكثر هذه الأخيرة في عالم اليوم المتأجّج في كلّ شيء، حتى في الأحلام والتمنيات والأحداث وما في خانتها وأشكالها.

كما أن السعادة الحقيقية عبر الشعور بملامحها لا تعدو كونها غرضًا محسوسًا فحسب، بقدر ما هي منبع للكثير من الخيرات والأعمال الجيدة وقوة للخلاص من المشاكل والمنغصات وكلّ ما يعادي النفس البشرية في مواجهة التحديات، أيّا كانت هذه ومهما كانت. بل إنها أيضًا شكلٌ من أشكال الذكاء في تذوّق كلّ ما هو جميل وحَسَن في نظر الخالق والنفس البشرية السويّة.

الصوم

في الصوم، لا يحرمُ الإنسانُ نفسَه مثلاً من ممارسة هوايته في متابعة ما يستجدّ من تقنيات حديثة مسلّية أو ألعابٍ قدّمتها أجهزة التقنية الحديثة على أشكالها وتنوعها ومفرداتها، وما أكثرها. والصوم الحقيقي أيضاً لا يعني الحدّ من شهوة الكائن البشري أو امتناعه عن أصنافٍ معينة من طعام وشراب وملبسٍ فحسب، بل في الابتعادِ عن عادات غير مستحبة وسلوكيات ضارة جالبة لأشكالٍ من الأذى على الإنسان نفسه أو على مَن حوله من أهل القربى أو في المجتمع الذي يعيشُ فيه او حتى ما يمكن من عملٍ أو فعلٍ ناشز قد يشكلَ خطرًا على المدينة والمنطقة والوطن الذي منه يتنفس الإنسان هواءه ويشربُ من مائه ويأكلُ من خيراته. ونكرانُ كلّ هذه الأفضال يدخل في دارة “الأنا” الملعونة وحبّ الذات البعيدة عن مفاهيم الصوم وموجباته وإيجابياته التي يتوق إليها الباحث الحقيقي عن مفاعيل مفيدة في حياته وعلاقته مع الله الخالق ومع البشر والمحيط الذي يعيش فيه.

في الصوم ايضًا، يتعلّمُ الإنسان كيف يثبّت استقلاليتَه وإرادتَه من خلال التحكم بمفاتيح الأمور والأفعال غير الضرورية والبعيدة عن الطموحات الروحية النافعة في الدنيا والآخرة معًا. بل يلهمنا الصوم كيفية فهم ما يحتاجُه الإنسان حقًا في صُلب حاجاته وضروراتها التي تساهم في بناء حياته وتقوّي الروح والنفس والعقل والإدراك معًا مشكلةً له حصانة روحية راسخة بفعل الإرادة والعزم للسير نحو الأفضل. وحين التفكير في هذه جميعًا وفي غيرها من الأمور الأساسية للحياة السوية للكائن البشري، وبالذات في فترة ممارسة الصوم، يكتشف الإنسان أن الشعور بالجوع ليس أمرًا معقدًا غير قابل التحمّل والصبر عليه كما يعتقد البعض من الناس الذين يستصعبون الأشياء عامةً. بل بعكس هذه الأفكار الخاطئة، يمكن أن يكون الصوم أداة ووسيلة لتذوّق الطعام والشراب بشوقٍ أكبر عندما يتلذّذ أكثر بتناول طعامٍ أو شرابٍ بعد انقطاعٍ ولو لساعات خارج النظام اليومي المعهود لوجبات الطعام الاعتيادية التي باتت شبه إلزامية في مواعيدها بالنسبة للبعض على مدار الساعة. وهذا يكفي لمنح الإنسان الملتزم بالصوم وموجباته وطقوسه شيئًا وافيًا من السعادة وراحة النفس في ترويض الإرادة واختيار الصالح فيها وفي أدواتها.

ركن ثان

يُعدّ العطاءُ ركنًا ثانيًا في حياة الإنسان الروحية والإنسانية. فهو يوصف بكونه مقدار الالتزام الأخلاقي تجاه الآخر والشعور بوجوده وكيانه، بغض النظر عن أصل وفصل هذا الأخير. فهو فعلٌ يقوم به الإنسان بقدرٍ من التعاطف والتضامن ضمن شكل الالتزام الذي ينوي تطبيقه وتنفيذه بلا مقابل في صفحة معينة من حياته أو في الزمن الذي يقرّره صاحب الشأن والإدراك والفعل. ومن أشكاله ما يقرّرُه الميسورون بتقديم أموالٍ ذات شأن أو مساعدات عينية أو مادية للفقراء من البشر مباشرةً أو لمنظمات إنسانية تتولى المهمّة عبر شبكاتها وأفرادها، شريطة أن تذهب هذه العطايا لمن يستحقها وليس في جيوب إدارة هذه المنظمات، التي تحوّل الكثير منها لشبكات عائلية للإثراء ورفاهة العيش بفضلها. فالسخاء في العطاء يوحي لفاعله زيادة في الشعور بالراحة مع الذات ومع القيم التي يحملُها في قرارة نفسه. لقد اثبتت دراسات ومقابلات شخصية قدرةَ العطاء بلا مقابل على ردّ السعادة للإنسان الذي له هذه الموهبة والقدرة والروحية الفاعلة. وهذه من أروع الفضائل التي لا يشعر بها أصحاب “الأنا” من الأنانيّين الذي تقلقهم مثل هذه المفردة ولا موقعَ لها في قواميسهم أو في حياتهم. فالشخص الذي يعطي يشعر بسعادة غامرة ومضاعفة وقت العطاء الذي من شأنه إسعاد الناس المحتاجين ومقاسمتهم أحوالَهم وضرورات حياتهم الصعبة بالتقرّب منهم عبر هذا العطاء أو شكل المساعدة الذي يقدّمه للغير المحتاج، مادّيًا أو روحيًا. وهناك مَن يشعر بفائدة أكبر وسعادة أكثر في زيادة العطاء خلال فترات الصوم، سعيًا وراء أجرٍ أعظم. وهذا ما نلاحظُه ونعيشُه في صفوف المؤمنين الملتزمين وغير الملتزمين على السواء أثناء الصوم الأربعيني للمسيحيين أو في شهر رمضان بالنسبة للمسلمين، وربما لدى غيرهم من أديانٍ ومعتقداتٍ أخرى، ما يزيد من فرحة وسعادة الشخص الواهب والمُعطي بجزالة وسخاء من كلّ قلبه وليس باعتباره فريضة ملزِمة لا بدّ من شرّها. وليس غريبًا أن يشعر الإنسان المتبرّع مثلاً، بعضوٍ من أعضائه لإنقاذ شخصٍ محتاج ومشرفٍ على فقدان حياته، بقدرٍ كبيرٍ من السعادة. أو أن “يبذل الإنسانُ نفسَه عن أحبائه” في أوقات الشدّة حبًا بهم وفرحًا بفرحهم وصولاً لسعادتهم وراحتهم وحلاً لمشاكلهم المعقدة. فالعطاءُ دومًا أفضلُ من الأخذ!العمود الثالث الذي يراهن فيه الإنسان في حياته بحثًا عن الهدوء والراحة النفسية وشيءٍ كثيرٍ من الاطمئنان والسعادة، يكمن في الصلاة والخلوة بعيدًا عن الضوضاء وأدوات التشويش. ففي العهد القديم صلّى الأنبياء ونالوا عطاياهم ومرادَهم لإكمال مهمة أو نقل رسالة للبشر. وتوالى على خطاهم الأولياء الصالحون، وتبعهم المؤمنون بغض النظر عن الأسلوب والنوايا والأدوات زمانًا ومكانًا. كما أنَّ الصلاة توصي بها كافة الأديان، بل تحثّ عليها لأنها وسيلة المؤمن للوصول قريبًا من الله بسبب ما فيها من ثمار ومن مفاعيل لصحة الإنسان وصلاحه وشفاء نفسيته عبر الحوار المباشر مع الله الخالق. وفي الصلاة يجد الإنسان ما يريحُ فكرَه وعقلَه ونفسَه ويمنحه ما يحتاجُه من خيرٍ مفقود ربما في أيامه أو سنواته السابقة. فهي عند الكثيرين بمثابة الدواء الشافي، ولو للحظات أو ساعات أو أيام، لاسيّما إذا كانت مجبولة بنفحاتٍ إيمانية من القلب. وحينما لا تكون الصلاة مجرّد ترديدِ لكلمات ببغائية غير مفهومة بل نابعة من إيمانٍ حقيقيّ، حينها تكمن فائدتُها أكثر وتكبر مفاعيلُها وتُسهم في إزالة غشاوة الهموم والأحزان والمشاكل وتقلّل من الآلام الشخصية اليومية التي لا يخلو منها أيّ إنسان، لاسيّما حينما يشعرُ أو يستشعرُ قدرًا وافيًا من نعم السماء تنزل عليه في هذه الممارسة الإيمانية الصحيحة. فهي وسيلةٌ أخرى لإدراك عظمة السماء باستثمار ما يتوق إليه المؤمن من رجاء وعظمة من لدن الخالق العظيم سعيًا وراء شيءٍ من السعادة والاطمئنان النفسي والروحي في فترة الاختلاء والحديث المباشر مع الله بمثابة “الابن مع أبيه”. وبذلك يشعر الإنسان في هذه الأوقات الخاصة من الخلوة مع النفس بسعادة أعظم حينما يبتعد في صلاته وحديثه المباشر مع الله عن كلّ ما هو مادّي واشتراطيّ ممّا يُفقد الصلاةَ مفعولها. ومع ذلك، من حق الابن أن يطلبَ ما يشاءُ من أبيه، ولكن ليس بصيغة شرطية تسقطُ مع عدم نيل المرام في مثل هذه الجلسة التأملية الانزوائية غير المقبولة. فالله عارفٌ بحاجة الإنسان في الاعتناء بخليقته. وعندما لا تتحقق أمنيات المؤمن الذي يصلّي أو يطلب مرامًا، فهذا شأنُه تعالى لأنه يعرف ما في خير الإنسان، وهو العالمُ بصالحه أكثر من الإنسان الضعيف.

هناك أشكالٌ من الصلاة، بعضُها لا يعدو كونه ترديدَ ألفاظٍ مجردة من الإحساس والعاطفة، أو حفظَ آياتٍ أو عبارات بهدف التباهي بالتديّن أمام الملأ. فمثل هذه الصلاة، ليس لها مفاعيل ولا بركات ولا كرامات كونها خالية من النية الخالصة. كما أن شكل هذه الصلاة لن يكون له القدرة لإعطاء الإنسان ما يتوق إليه من تأييد ربّاني أو دعمٍ إلهيّ لمرافقته في صلاته وانجذابه إلى خالقه. وغالبًا ما تتساقطُ دموع القائم بالصلاة العميقة الخالصة وهو يناجي ربّه لشعوره بقربه منه في هذه الفسحة الزمنية وهو غارقٌ في التأمّل والتساؤل والطلب وبما لا يخلو من عاطفة بشرية وإنسانية ممزوجة بقدرٍ من إبداء الضعف أمام عظمة الخالق والمكان الرهيب الذي يناجيه منه في حوار متبادل. والمصلّي الحقيقي لا بدّ أن يشعر بقوة تدفعُه لاتباع طريق الحق، وانتهاج أفضل السبل لبلوغ المُنى والحكمة والراحة النفسية والسعادة المنشودة والطريق الصحيح في الحياة، وأخيرًا السلام الداخلي، لاسيّما لمَن يفتقدُه في قرارة نفسه.  ففي الصلاة أيضًا قدرٌ وافٍ من الشجاعة لمواجهة الذات في حضرة عظمة الخالق الذي يهدي مَن يشاء من عباده الصالحين والخالصين في مشاعرهم وإرادتهم ونياتهم.في اليهودية نشهد ليتورجية خاصة بالصلاة في طقوسها، فردًا وجماعةً. كما نقرأ في أناجيل العهد الجديد أهمية الصلاة في حياة المسيحي تأكيدًا على توصية السيد المسيح لأتباعه: “صلّوا ولا تملّوا” (لوقا 1:8). وفي الإسلام أيضًا تُفرض الصلاة من ضمن ثاني أركانِه، دلالةً على منزلتها الرفيعة في حياة المؤمن المسلم. بل هناك مَن يتباهى في هذه الديانات الثلاث بكونه من الملتزمين بالصوم والصلاة والزكاة والعُشر وكلّ ما تفرضُه الشريعة من واجبات. أمّا النعمة الحقيقية وما فيها من مفاعيل وفوائد روحية، فهي تكمن في الصلاة والصوم والعطاء بخفيةٍ ومن دون فرقعات أو تسليط أضواء إعلامية أو دعائية زائفة تغلق باب الثواب بل تنتفي فيها هذه النعمة وهذه البركة. فالله عالمٌ بخفايا وأسرار القلوب وهو يجازي بحسب النية والإرادة.

خلاصة مفيدة

كلُّ مؤمنٍ ومن أيّ دينٍ أو معتقدٍ، يحضُّ الخطى وما في وسعه في حياته الزمنية كي يخزن له في الآخرة أفعالاً تشفعُ له يوم الحساب أمام الديّان العظيم واسع الرحمة لمختاريه. وما أدراكَ ما يوم الدّين! فأمام هذا الرعب من يوم الحساب، يقف الإنسان العاقلُ إجلالاً وفي حيرة من أمرِه كيف به أن يزيّنَ حياته الأرضية بأعمال الرحمة والنعمة والمحبة عبر ثلاثٍ حكيمات: الصوم والصلاة والعطاء.عندما تكون الصلاة الصادقة بعيدًا عن المظاهر الفارغة وبدواعي التباهي الزائف والتغطية على الواقع المتهرّئ للقائم بشكل هذه الممارسة ليراه الناس، فهي ذاتُ مفاعيل كثيرة تخدمُ المؤمن وتقوّي من عزمه وتقرّبُ نفسَه للّه ابيه السماوي. يقول المسيح ” وإذا صَلّيتُمْ، فلا تكونوا مِثلَ اْلمُرائينَ، يُحِبّونَ الصّلاةَ قائِمينَ في المَجامِعِ ومَفارِقِ الطّرُقِ وملتقى الشوارع ليُشاهِدَهُمُ النّاسُ. الحقّ أقولُ لكُم: هؤُلاءِ أخذوا أجرَهُم” (متى 5:6). فأفضلُ الصلاة تكون لله الآب في الخفية، والله القادر على كلّ شيء ويرى كلّ شيء في الخفية هو الذي يجازي عبادَه. ومثلها المتصدّقُ تجاه الفقراء والمساكين والمحتاجين في عطائه السخيّ من كلّ جوارحه وليس استحياءً أو اضطرارًا أو دعايةً. فهو بهذا الفعل المجّاني بلا مقابل يستحق النعمة والبركة إذا تصرّفَ بحيث “لا تعرف يمينُه ما تفعلُه يدُهُ اليسرى.” ويكملُ الصوم هذين الركنين عندما يكونُ مصحوبًا بإرادة صادقة ونية فاعلة تهدفُ حقًا للتقرّب من الله والتذلّل أمام عظمة هذا الإله الجبّار. فهو في كلّ الأحوال، عملٌ إيمانيّ ومن العلامات المميزة في بناء الروح وترويض النفس وصقل الإرادة والنيّة.

مشاركة الاخوان

إنّ مَن يجيد الصلاة في خلوتِه والحوار مع الله أبيه السماوي، ومَن لا يمنع نفسه عن مشاركة إخوته المحتاجين في البشرية في عطائه المفتوح من دون تمييز ولا استعلاء ولا مراءاة، ومَن يعرف كيف يروّضُ نفسَه ويقمع شهوتَه ويمتنع عن أذى القريب والبشر والحجر بإرادته ونيته الصافية، فهذا حقًا يعرف عطايا الله الخالق ويستشعر قدرة رب السماء والأرض ورحمتَه وجبروتَه في حياة الإنسان. فبمثل هذه المزايا والسمات الإيمانية وبغيرها من الطيبات والحسنات، يمكن أن تصطلح أحوالُ البشرية المعذَّبة وبها تُبنى أسسُ الدول المتمدنة وتتشاركُ الشعوب في حب الخالق والبشر بعضها لبعض عوض أشكال الفساد والكراهية وأعمال العنف وما سواها من أنواع الرذائل التي ترفضها الأديان التوحيدية وغيرها من الأديان والمعتقدات الإنسانية في جميع بلدان العالم التي تنشد السلام والمحبة والطمأنينة وكفاف اليوم المشروع من الرزق الحلال.



Most Read

2024-09-22 19:31:19