فاتح عبدالسلام
عندما وصفوا ثورة المعلومات والتكنولوجيا بأنها حولت العالم الى قرية صغيرة، كانوا دقيقين في التوصيف وبتنا نستشعر تلك الدقة في زمن الحرب على نحو غير مسبوق. دول العالم كانت قد انخرطت جميعها بإرادتها أو كنتيجة حتمية في علاقات تكوين ذلك العالم ووجوده منذ عقود حتى عادت الدول جميعها تشترك في ضخ معلومات ومقومات وخدمات ادامة هذه القرية الصغيرة المعقدة الى حد الذهول. اليوم تكون المهمة خطيرة ومعقدة بشكل لا يتصوره العقل بسهولة، حين تريد الدول عزل دولة وتجريدها من امتياز تأسيسها لبناء العالم ، لاسيما اذا كان لها تشابك معلوماتي وتقني ومالي واقتصادي وأمني عميق مع القرية الصغيرة،إذ لا يمكن ان تمر ترتيبات الهدم كما كانت إجراءات البناء والمشاركة في عوامل الصلات في القرية الموحدة بالمصير على هذا الكوكب.
لو كانت روسيا مثل دول الشرق الأوسط كالعراق وسوريا وليبيا واليمن وسواها، خارج منظومة الدول الاساسية في صنع تكنولوجيا العالم ورسم خرائطه، لكان الامر هيناً، وان عمليات الحجب والعزل ستكون عقوبات ذاتية الأثر ليس فيها القدرة على الحاق الضرر بنظام عالمي، لأنها تابعة لمداراته وليست صانعة لأساساته ومفاتيحه.
يبدو انَّ المنظمة المتخصصة في توزيع وإدارة عناوين الإنترنت في العالم، التي رفضت الدعوة الى الانخراط في إجراءات العقوبات العالمية على روسيا وقررت الحياد، تنطلق من املها في انّ الحرب قد تنتهي، من دون ان تكون قد انساقت الى تخريب سياقات في منظومة الانترنت التي تمسك بكل شيء في العالم.
من الصعب ان يتم تحديد مَن هو المالك الوحيد لهذه القرية، وإذا توغلنا في التعمّق في تدقيق سجلات ملكية العالم القرية، ربّما نصل الى انّ سندات الملكية باتت مشاعة، ومن الصعب ان يطالب أحد بحصته بها منفصلا، لينجو من دمار يصيب الحصص الاخرى لأي سبب محتمل.
المسألة ليست مستحيلة في إعادة تركيب أجزاء قرية العالم على وفق أسس بنائها وعناصرها الأولية كما بدأت اول مرة. لكنها عملية تركيب جديدة قد تستغرق زمنا يساوي زمن تشكيل الوجود المتقدم للعالم المشترك في انظمته العامة. وهذا لو حصل فإن سيقود الى فرز قاطع وحاسم ومخيف بين عالمين، لا يستطيع أحد الوقوف على الحياد ازاءه، وهنا لا أحد يستطيع التكهن أيضا، بشأن أي من العالمين سيكون أكبر من سواه.
نعيش منذ سبعين سنة في الأقل، كعمر تقريبي للطفرة النوعية المهولة في التكنولوجيا، ونحن نشعر بأنّ العالم حولنا كيان معروف بكل ما يحتويه وينتجه ويصرفه ويعانيه ويطمح اليه ويتجه نحوه، وفجأة نكون جميعا، بفعل هاجس الحروب الكبرى، مشدوهين أمام عالم غريب ومجهول.
رئيس التحرير-الطبعة الدولية
fatihabdulsalam@hotmail.com
2024-09-22 19:32:50