Breaking News >> News >> Azzaman


نهر الرمان أم دم شوقي كريم؟


Link [2022-03-17 00:13:41]



نهر الرمان أم دم شوقي كريم؟

تحولات اللغة وفلسفة الموت في السرد الروائي

أحمد عبد المجيد

تحت وقع التخدير ، يفلسف لنا الروائي شوقي كريم ، صعود الارواح الى السماء او ما يمكن تسميته اصلاً ، بالموت. وفي بوحه الذي تضمنته روايته الأخيرة (نهر الرمان) يسيل دم غزير ، نستعيد بتدفقاته ، تاريخياً من الاوجاع والهزائم والخيبات والاحلام المجهضة .

يكشف السارد شوقي كريم عن محطات في حياته ، نستخلص تفاصيلها في الابواب أو المداخل التي قسم روايته بها، مستعيراً مقاطع شعرية أو اقوالاً مأثورة أو حكايات مندرسة بعنوان (مثل قديم). وتحيلنا  (نهر الرمان) الى ما يعرف بالسرد السريالي ، الذي هو مزيج من خيال درامي ملون ضارب في عمق النفس ، وواقعية مفرطة في التصور ، لكن مزيجهما يخرج عن تقليدية بناء الرواية ، من حيث شخوصها وتضاريسها الداخلية ومسحة الحياة الافتراضية ، وتسلسل الحوادث فيها، وقد تعمد السارد ، بلغة أدبية عالية ، التحليق قريباً من مثاباتها ، أو غير بعيد عن امتدادات سبق أن عاشها، أو بمنأى عن تخوم سنوات ماضية .

ورأينا الحوار الداخلي او البوح فيها، لا يمثلان اجواء عالم افتراضي بقدر ما هو هذيان روحي، ينطلق بدون وعي كامل، تحت درجات من التخدير. وهنا يجعل شوقي كريم ، طبيبة التخدير ، شخصية محورية ، برغم انه لا يفترضها تصغي الى هذيانه بكل قوامها وقواها العقلية . واظن ان التجربة الشخصية التي عاشها في صالة العمليات المتشحة بالبياض، لاجراء جراحة كبرى طبعت كثير من ملامح ذاك الحوار ورموز المكان. وقد جره ذلك الى اقتفاء اثر المفردات العامية (تتشعوط) مثلاً ص 44   ومقطع من أغنية مشهورة لعبد الحليم حافظ (بحلم بيك أنا بحلم بيك وبأشواقي مستنيك) ص 45 كما يقع في شرك التوصيف الأنشائي الذي يظنه بناء روائياً (لم يك ليله الثمل موغلاً بعذاب الاجابات، آخذ صدرها الرخو مثل قدح حليب اليه ، لكنها انهزمت صوب حصون وحدتها، قال الرجل ، بعد ان أعاد ترتيب أنابيب الدم التي بدأت تتيبس) أو ينشد بيتاً شعرياً اثيراً (اذا نهاني عن شرب الطلا حرج .. فخمر عينيك يغنيني ويجزيني) ص 151 .

فيلم سينمائي

لقد استرجعت، قراءة رواية شبه سريالية للمصري أحمد مراد بعنوان (الفيل الأزرق) ، تحولت الى فيلم سينمائي (من اخراج مروان حامد وتمثيل كريم عبد العزيز وخالد الصاوي ودارين حداد ونيللي كريم)، وهي الرواية الثالثة لمراد التي عدت الاكثر انتشاراً ، وتقول المصادر ان الروائي (قضي سنتين في دراسته تفاصيل عالم غريب ، وهي رحلة مثيرة تستكشف فيها اعمق واغرب خفايا النفس البشرية)، مع الفارق عن (نهر الرمان) ان الهذيان فيها يكمن في شخصية محورية تقع تحت ارق الواقع ويقظة الحلم ، ما قطع استمرار تتابعهما وتداخلهما، انفاس القارئ ، ويدفع الى سطوة كابوس يضغط بعنف، عبر المفردات التي يختارها منطق الراوي الغائب الذي سرعان ما نكتشف انه مصاب بلعنة (الشيزوفرينيا).

في الفيل الأزرق يتماهى بطل الرواية مع شخصية مطابقة او مع ذاته، فيقع تحت تاثير الانفصام ويستدعى ، متحطماً لا ينفك عن الاوهام أو التهيؤات، فيما يخضع في (نهر الرمان) الى عملية جراحية ، فتصبح صالة العمليات والملاك الطبي عالم الروائي، الذي يظل يسرد تاريخه ويكشف علاقاته الشخصية بذكر اسماء القريبين والبعيدين وما صادفه من نساء ورجال وقتال ، بامتدادات راسخة في العقل الباطن وينسكب صوته الداخلي على الورق ، راسماً حتمية مجازية .

وبدا لي شوقي كريم في بواباته السبع (أو فصول روايته) التي توزعت على خارطة (الاعترافات)، مسترخياً غير متعجل، برغم ايقاع الرواية المتوتر . وكنت قد قرأت روايته السابقة (لبابة السر)، فأتعبتني لغتها ووقائعها الغامضة ، حتى ظننت انه يكتب لحشد معاند لا يمشي على أرض.

 وعزوت ذلك الى طبيعة الروائي الشخصية، فقد عرفته مشاكساً عنيداً لا يأخذ في الحسبان، احياناً، الاثر المترتب على جرأة غير محسوبة تتسم بها طروحاته ، لكن الذين يعرفون جوهره ، عبر مزاملته أو مرافقته الطويلة أو حسن نواياه، يدرك شجاعة حقيقية ، قل نظيرها، يمتلكها شوقي ، في السلوك ، مثلما في السرديات . فهو يستوحي منتجه الروائي يضـفي على مكوناته شحنة نارية من التحدي والمواجهة ، من واقع ان الانسان لا يموت مرتين، كما يقولون ، وان لا أحد ينتزع منا الحياة الدنيا إلا الله.

وترد في خاطري وانا اطالع (نهر الرمان) اسئلة مفادها لمن يكتب الروائي ؟ هل يكتب لنفسه أم للنخب الثقافية حسب، أم انه ، كالصحفي ، يكتب لجمهور عريض يوصف بانه جمهور الاتصال؟

وجوابي ان الروائي قد يكتب لنفسه في بداياته الاولى ، ثم قد يرى من المناسب ان يكتب للنخب التي تشاطره الاهتمامات والرؤى ، لكنه سرعان ما يكتشف ان وظيفته الانسانية والاخلاقية تلزمه بمشاركة الجمهور العريض، احلامه وتطلعاته وهمومه .

 وهنا تبدأ ملامح التحول المطلوب في لغة التواصل فيهبط الروائي ، أي روائي ، من برجه العاجي ويلجأ الى استخدام لغة السهل الممتنع التي يفهمها جمهور متعدد المشارب والثقافات والاهتمامات .

 وازعم اني وجدت مثل هذا التحول في تجارب اطلعت عليها . فالروائية التركية اليف شفق التي تعرفت عليها، للمرة الاولى، في روايتها (قواعد العشق الاربعون)، لم تقدم نفسها ، باللغة ذاتها التي اطلعت عليها في روايتها (لقيطة اسطنبول) و (شرف) و (حليب اسود) و (بنات حواء الثلاثة) ، ثم أحدثها روايتها التي اعكف على الانتهاء من قراءتها (الفتى اليتيم والمعلم) المستوحاة من حقبة حكم السلطان العثماني سليمان ونجله سليم ثم السلطان مراد، فتقنية اللغة فيها أقرب الى اداة صحفي متمرس .

 منها الى لغة روائي مخضرم ، وهو ايضاً ما  لمسته في رواية ذاع صيتها وتحولت الى فيلم سينمائي مثلته النجمة جوليا روبرتس، للكاتبة الامريكية اليزابيث جيلبرت بعنوان (طعام وصلاة وحب)، حيث تشمخ اللغة الثالثة التي تتوسط اللغتين الادبية والعلمية ، فهي تقنية تستفيد من خصائص كل واحدة من الاثنتين. والامر ذاته ينطبق على سلسة روايات قرأتها للروائية التشيلية الأصل ايزابيل الليندي، بدءاً من (دفتر مايا) و (باولا) و (بيت الأرواح) وانتهاء بروايتها الملحمية (حصيلة الايام – سفينة نيرودا).

لقد حاول شوقي كريم ان يفلسف الموت كنهاية طبيعية لكل كائن حي ، لكنه يعترف في نهاية الرواية المضمخة باللون الأحمر . بعجزه عن اكتشاف كنه هذا اللغز وحتميته. في نهاية سؤال غير متوقع: ما الموت؟ ولماذا يتحتم علينا ان نمارس لعبته طوال حياتنا ؟

انه تساؤل حائر ومحيّر راوده تحت ضغط حالة استثنائية فاصلة، ادخلته (تجربة الموت) واخضعته لمبضع الطبيب ، فيرحل رحيلاً سريرياً. وبين الصحو والدخول الى السرمدية، يعترف شوقي كريم ، ثانية، انه السؤال الذي لا يمكن ان تجد له اجابة.



Most Read

2024-09-22 23:42:09