تتطور العلوم وتتشعب التخصصات مع تطور الحياة، وبالتالي يصعب، أو ربما حتى يستحيل على المرء، الالمام بمستجداتها، ناهيك عن التخصص في جميعها. ومنذ فترة ليست بالقصيرة اصبح الاهتمام بعلمي النفس السياسي والاجتماع السياسي يتزايد كثيراً اذا ما أراد الساسة فهماً ونجاحاً في أعمالهم وتحقيقاً لطموحات شعوبهم.
وقد لا يعتبر من التجني أن نقول أن كثيراً ممن حكم العراق لم يفهم كثيراً في هذين العلمين فانتهى بنا الحال الى ما نحن عليه من فوضى وتشرذم وظلم وتخلف وفقر وهوان على الناس، رغم ثرواتنا وماضينا الحضاري المجيد.
ولم يكن ليحصل ذلك دون اهتزاز وتدهور لا بل وانهيار في منظومات قيمنا الأخلاقية الضرورية لضبط ايقاع الحياة وتهذيب العلاقات بيننا وزرع هواجس العدالة وردع نوازع الظلم والخنوع والهزيمة.
ومن أجل تحديد الفترة التي يتناولها هذا المقال، إرتأيت حصرها بالمساحة الزمنية التي تمتد من العام ١٩٨٠ وحتى هذا اليوم.
فترة الحرب العراقية الايرانية:
لست في معرض بحث أسباب وحيثيات اندلاع الحرب، والتي لا يمكن استبعادها في فهم ما ساهم في تداعيات تدهور المنظومة الاخلاقية في العراق لاحقاً. فمنذ استلام خميني السلطة في ايران وما رفعه من شعارات وما أثاره من فتنة طائفية كبيرة القت بظلالها على كينونة الاخلاق الوطنية العراقية وشعور الانتماء لها والاستعداد للتحلي بها والدفاع عنها.
من ناحية أخرى استوجبت الحرب اعلاناً صريحاً ومساهمة ملموسة ومحسوسة لدى أكثر المواطنين في المشاركة في الحرب العراقية الايرانية بصورة مباشرة وغير مباشرة، بقناعة أو دون قناعة، وهو ما دفع بالبعض الآخر الذي أثارته دوافع تلك الحرب بصورة سلبية إلى الهرب والانضمام للطرف الآخر أو أي تنظيم معارض رافض، أو التخفي أو اضمار الحقد والكراهية وتربص الفرص السانحة للانقضاض على منظومة الأخلاق التي قام عليها نظام بعث صدام، والتي خرج منها منتصراً عسكرياً في حدوده، ولكن كذلك بتداعيات اقتصادية ومالية واجتماعية وثقافية ثقيلة انعكست بتأثيراتها في المنظومة الاخلاقية لم تظهر على الفور.
فترة دخول الكويت والخروج منها:
لم يكن قرار دخول أو غزو العراق للكويت بالمسألة العابرة التي ليست لها أوليات وأسباب، كما أنها لم تمر دون تداعيات، لا بل وتداعيات جسيمة بالعلاقة مع منظومة الاخلاق. فهناك من وجد فيها خرقاً لاخلاق الاخوة العربية والجيرة، وهناك من رفضها لما توقعه من تداعياتها السياسية والعسكرية والاقتصادية وحتى الاخلاقية، والتي جاء الحكم عليها بعد الذي حصل من أمر الكويت غزواً وتحريراً.
لقد انتهت قضية الكويت هذه الى كارثة وطنية وقومية ودقت مسامير نعش نظام العراق وصدام حسين لاحقاً، وما صاحبها من احداث ونتائج على منظومة القيم الاخلاقية.
فترة العدوان الثلاثيني على العراق عام ١٩٩١:
ان ما خلفه العدوان الثلاثيني، اقول العدوان لانه لم يكن الا عدواناً مخطط له مسبقاً، من دمار هائل في العراق على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، وهو ما يشكل البنية التحتية للمنظومة الاخلاقية المتفاعلة معها، قد ساهم بدرجة كبيرة على قيم تلك المنظومة، لا سيما بعد ما سببته واتاحت الفرصة له من انتفاضة لقوى سياسية وعسكرية وثقافية معارضة لنظام صدام حسين، وما آلت اليه تلك الانتفاضة، ناهيك عن الكارثية الوطنية لسيادة العراق في خطوط حظر السلطة المركزية في ضوء نتائج ذلك العدوان.
فترة الحصار، وما أدراك بآثاره الأخلاقية!:
ليس هناك ما دمر المنظومة الاخلاقية في العراق اكثر من الحصار القاسي والجائر على شعبه والذي وجد تداعياته في مدى قوة السلطة على ما حصل من أمور بسببه، أو مرونتها تجاوباً مع وضعه، أو من خلال استغلاله من ضعاف النفوس، أو بسبب قدرة الناس على تحمل تبعياته، وبالتالي تنصل وتحلل الكثيرين من الالتزام بمنظومات القيم التي ترعرعت في المجتمع العراقي. لقد شكلت فترة الحصار وتبعياته المعيشية والصحية والتعليمية الارضية لاهتزاز القيم على المستوى الجمعي والفردي.
فترة احتلال العراق وما تلاها:
لقد توج احتلال العراق، من قبل الامريكان وايران، كل ما سبقه من عوامل في هدم اساسيات في منظومة الاخلاق الجمعية والفردية. فاخلاقيات التعامل مع الاجنبي المحتل والنهب والكسب الحرام والرشاوي والعمولات واستباحة دماء الابرياء من المواطنين وتدمير كل ما بناه النظام السابق، وتحليل الحرام، وتحريم الحلال، كما يقال، بعد فترات من المركزية الوطنية وتراكمات الحرمان اثر الحصار، كلها عوامل ساهمت في انزلاق المنظومة الاخلاقية الى مستنقع ودرك واقع اليوم.
خاتمة: ان ماحصل في العراق خلال تلك الفترات وما سببه عند كثيرين، وللأسباب التي أتيت على ذكرها بالنص أو التأويل، وأخيرها ما حصل من اسلوب تغيير السلطة غير المشرف وطنياً واطرافه، وبالتالي تغير الاصطفافات وما سببته من انفصامات في الشخصية لدى كثيير من العراقيين رسم ملامح المنظومة ” الأخلاقية” الجديدة في المجتمع العراقي.
برلين، ١٠/٣/٢٠٢٢
2024-09-23 05:26:49