Breaking News >> News >> Azzaman


بين هيبة الدولة وإستبدادها خيط أبيض – علي الشكري


Link [2022-02-09 20:39:35]



بين هيبة الدولة وإستبدادها خيط أبيض – علي الشكري

قبل ما يربو على ثلاثة عقود ونيف من الزمن ، وأنا في المرحلة الأولى لكلية القانون في جامعة بغداد ، يوم كان الجميع يقف إجلالا لهذا العملاق ، فالكلية في تلك الأيام لا ينالها الا الأوائل على العراق في الفرع الأدبي تحديداً ، وأنا أقرأ بشغف ما دون بين جنبات مؤلفات أساتيذ كبار كان بعضهم مؤسِس، وكانت ولما تزل تلك المصنفات نابضة بالمعلومة ، استوقفتني معلومة دونت في مؤلف مبادئ القانون الدستوري والنظام الدستوري في العراق ، للثالوث اساتيذنا المفرجي والجدة وگطران ، حتى أني رحت ابحث في أصل نسبتها للفيلسوف ” توماس هوبز ” حيث جاء فيها ” أن هوبز كان يرى في استبداد فرد خير من استبداد كل المجتمع ” ، كيف لفيلسوف منظّر أن يدعو لاستبداد حاكم !!!!!!! إذ راح بي الظن والشك بأصل المعلومة واعتقدت أن كتابها راحوا يجاملون الحاكم لتجنب بأسه أو سعياً وراء كسب وده ، حيث كان الاستبداد في قمته والبطش في أوجه واختلاق الازمة مشاهد متداول متناقل . وبعد الرجوع الى امهات المراجع والمصادر في القانون الدستوري والبحث في أصل المعلومة ومردها ومناسبتها ، تبين أن ” هوبز ” عاش في مرحلة من الاضطرابات السياسية والأمنية ، حيث انتقل العرش الى ملك قادم من ألمانيا لا يجيد الإنجليزية ، واعتمد في إدارة  دفة حكمه على أعوان ومساعدين جيروا الحكم وأدواته لصالحهم وانشغلوا عن إدارة شؤون الحكم ، فعمت الفوضى وانتشرت الجريمة وتراجعت الخدمات ، وأضحى كل الشعب حاكم ومحكوم ، وعلى رأي المثل الشامي ، تحولت إنجلترا الى ” حارة كلمن أيده أله ” ، من هنا أطلق ” هوبز ” خالدته أن يستبد فرد خير من أن يستبد كل الشعب . لقد عشنا جل حياتنا الماضية ونحن نعاني إشكالية الحاكم الفرد الأوحد ، الذي لم يبقَ لقب الا وناله ، ولا وصف الا ووسم به ، ولا اختصاص الا وتحصل عليه ، فهو باني المجد ، ومهندس الانتصارات ، وشافي المواجع ، ومشيّد الحضارات ، ومدرسة التقاليد ، القائد الذي لا يقهر ، والغيور الذي لا يجارى ، حامي الأرض والعرض ، والمفتشون الدوليون يدخلون غرفة نومه ويعبثون بأغراضه ومقتنياته !!!!

مظاهر هيبة

وفي ظل ذلك الحكم الفردي المستبد ، عشنا مظاهر كنا نعتقدها أنها جزء من الاستبداد لكنها كانت في الواقع مظهر من مظاهر هيبة الدولة ، فدولة دون هيبة غيابها أولى من وجودها ، وعدمها خير من قيامها ، وربما كان المظهر الأول لاستبداد الدولة عندي ، اليوم الأول من الدراسة في الصف الأول الابتدائي ، حيث خرج المربي الأستاذ عدنان رشيد  الى الإدارة وطلب عدم مغادرتنا الرحلة وإلا سيكون العقاب شديد والوجع أليم ، وما أن غادر الصف الا وانتشرنا في باحة المدرسة كسرب جراد ، فما أن عاد وشاهد الفوضى ، ووقف على مخالفة الأمر ، الا وعمد الى تشغيل الخيزران على أيدينا دون استثناء ، فراح الصف يضج عويل ونحيب وبكاء ، وأتذكر صرخته لوقف ما احدث البكاء من فوضى وضجيج ، العصا لمن عصا ، وبعد أيام قلائل وأنا أشق السوق مشياً على الأقدام للوصول الى البيت بعد مغادرة المدرسة ، استوقفني مشهد لا يزال ماثل امامي كأنه اليوم ، إذ راح باعة الخضر ومن عرض بضاعته على الأرض يلملم أغراضه بصورة عشوائية وكل ينذر الآخر بوصول حمدي الشرطي الى السوق ، وما أرعبني مشهد الفوضى والركض الى غير هدى ولملمة البضاعة العشوائي ، حتى أنني رحت اركض وقد ظللت طريق العودة من شدة الخوف واتباعي خطى الفارين ، وبعد اجتيازنا المرحلة الابتدائية وولوجنا المرحلة المتوسطة ، ساد الاعتقاد لدينا أننا تجاوزنا مرحلة الضرب في المدرسة الى مرحلة النصح والتوجيه ، كيف لا وقد تخطينا الابتدائية وراحت مرحلة المراهقة تقف على الأبواب بل واقتحمت بعضنا ممن بانت عليه اثارها حيث خطّ الشارب وأخشوشن الصوت وراح الأهل يتحدثون معنا بلغة أخرى ، وإذ بأستاذنا مدير المدرسة السيد عدنان زبر “مد الله في عمره ومن عليه بالصحة ” يُبرح أحد الطلاب ضرباً ، ولا أحد من الكادر التدريسي يجرأ على الحديث معه أو استعطافه لثنيه عما أقدم عليه ، وبعد سؤال على حذر ، وتقاطع للمعلومة ، تبين أن المدير اكتشف أن الطالب يدخّن خلسة ، وساد الاعتقاد لدينا آنذاك أن المدير متعسف مستبد لم يراعِ العمر ، ولم يحترم الشارب الذي بان كما الهلال يوم ولادته ، وفي المرحلة الإعدادية حيث رحنا نفتعل مشي الرجال ، ونتمثل بمن سبقنا لغة واسلوبا في الحديث والنقاش والدراسة ، تفاجائنا بأن معاون المدير  يحاسب في يوم الخميس الطلبة المتغيبين في ثنايا الأسبوع ، ويفتّش على شعر الرأس وحشمة اللباس ، حيث كان زي الرجل يتميز عن زي الأنثى ، وليس كما اليوم مختلط ترتدي المرأة البنطال ، ويرتدي الرجل السروال القصير والأساور والقلادة ، شعر المرأة محفور بزلف ، ورأس الرجل طويل مشدود يلامس الكتف ، وبعد انتهاء استعراض الخميس من مراسم رفع العلم وتلقي التوجيهات وتلاوة اسماء المعاقبين ، ينفّض الطابور الى حيث الدرس ، وفي الطريق اليه يتم تداول الحديث عن استبداد المدير وتعسف المعاون ، ونحن نجهل القيمة الأخلاقية والتربية المدرسية والتهذيب الأكاديمي . وفي الأيام الأولى من مباشرتنا الدراسة في كلية القانون ، حذرنا الأسبق مرحلة من مخالفة الزي الموحّد ، والقفز على التعليمات ، وتجاوز الحدود المسموح بها للتغيب ، فإن للكلية عميد لا يقبل التوسط ، ولا يترفع عن المخالف ، ولا يتجاوز عن المسيء ، الفصل عنده معتاد ، وانهاء المصير الأكاديمي ليس فيه إشكال ، وسوط العقوبة عنده شديد نافذ ، ومن كان يجهل العميد ، هو الأستاذ الدكتور محمد عبد الله الدوري ، وما روي عنه شاهدناه بعد أيام قلائل حيث أعلنت إدارة الكلية عن قائمة طويلة للطلبة الذين وجه لهم إنذار نهائي بالفصل بسبب عدم التزامهم بحضور المحاضرات  ، ولم يكن تعامل عميد كلية الإدارة والاقتصاد في جامعة الكوفة أقل غلظة مع التدريسيين المخالفين ،وأنا أباشر مهام عملي تدريسي في الجامعة في مطلع تسعينيات القرن الماضي ، وجدت فيها عميد يلاحق الأستاذ المتخلف عن المحاضرة ، والذي يغادرها قبل انتهاء الوقت ، وذلك الذي يرتدي ما لا يليق ومظهر الأستاذ الجامعي . ويقيناً أن ليس فيما كتبت دعوة للاستبداد ، ولا رغبة في سيادة التفرد ، ولا تشجيعاً لكبت الأصوات وتكميم الأفواه ، أو حنين الى ماضي نظام سياسي قتل ونكّل وهجّر  وسجن وعذّب وأمات وشرّد وقبر وغيّب وأهلك شعب ، وهدر وأضاع وبدد ثروة ، لكنها دعوة لإعادة هيبة دولة ، وقيم شعب ، وتقاليد مجتمع محافظ ، دعوة لإعادة مكانة التربوي ، واحترام رجل الأمن ، وضمان سير منتظم لمؤسسات الدولة ، فالمائز خيط أبيض بين الاستبداد وهيبة الدولة ، كما المائز بين الديمقراطية والفوضى ، والتأديب والقسوة ، والتوجيه والتعنيف ،  والشجاعة والتهور ، والجبن والحذر ، والكرم والتبذير ، والبخل والتدبير ، والتأني والتردد ، والامتنان والتزلف ، والتواضع والانحناء ، والاعتزاز بالنفس والتكبر .



Most Read

2024-09-24 03:36:29