Breaking News >> News >> Azzaman


‏من أجل الشوك نحبُّ الورد-رباح آل جعفر


Link [2022-02-09 02:13:49]



‏كان‭ ‬صفاء‭ ‬الحيدري‭ ‬نموذجاً‭ ‬غريباً‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬لم‭ ‬أصادف‭ ‬مثله‭ ‬في‭ ‬حياتي‭. ‬ولعلّه‭ ‬أغرب‭ ‬نموذج‭ ‬التقيت‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬وهو‭ ‬يخفي‭ ‬في‭ ‬داخله‭ ‬إحساساً‭ ‬بالألم،‭ ‬مع‭ ‬الإحساس‭ ‬بالغربة،‭ ‬وكذلك‭ ‬الإحساس‭ ‬بالخيبة‭!.‬

‏وبينما‭ ‬كانت‭ ‬الأصداف‭ ‬تلمع‭ ‬تحت‭ ‬أضواء‭ ‬الشهرة،‭ ‬كان‭ ‬صفاء‭ ‬ينام‭ ‬مدفوناً‭ ‬تحت‭ ‬تراب‭ ‬بيته‭ ‬في‭ ‬البتاوين‭ ‬ببغداد‭. ‬وصفاء‭ ‬لم‭ ‬يتزوج‭ ‬وكان‭ ‬يقول‭ ‬لي‭: ‬إن‭ ‬الزواج‭ ‬يقتل‭ ‬الشعر،‭ ‬وإن‭ ‬الحبّ‭ ‬يقتله‭ ‬المال،‭ ‬ويعتقد‭ ‬أن‭ ‬نظرات‭ ‬الناس‭ ‬ليس‭ ‬فيها‭ ‬ودّ،‭ ‬ولا‭ ‬صدق‭.. ‬وأنها‭ ‬نظرات‭ ‬متزلفة،‭ ‬منافقة‭. ‬

‏والغريب‭ ‬أنه‭ ‬كتب‭ ‬دواوين‭ ‬من‭ ‬أشعار‭ ‬الغزل،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬غرام‭ ‬امرأة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬كلها‭. ‬وكان‭ ‬إذا‭ ‬ضحك‭ ‬يضحك‭ ‬من‭ ‬حنجرته،‭ ‬وإذا‭ ‬جاش‭ ‬في‭ ‬البكاء‭ ‬فإنه‭ ‬يبدو‭ ‬كأنه‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يغيب‭ ‬عن‭ ‬الوعي،‭ ‬ثم‭ ‬يجلس‭ ‬طول‭ ‬الليل‭ ‬لا‭ ‬يغمض‭ ‬له‭ ‬جفن‭ ‬،‭ ‬يدندن‭ ‬في‭ ‬عزلته‭: ‬يا‭ ‬ليل‭ ‬نجومك‭ ‬شهود‭ ‬على‭ ‬لوعتي‭.. ‬ويا‭ ‬قمر‭ ‬أنا‭ ‬قتيل‭ ‬شفتيك‭!.‬

‏ولمّا‭ ‬كان‭ ‬يائساً‭ ‬من‭ ‬شعره،‭ ‬ساخطاً‭ ‬على‭ ‬زمانه،‭ ‬غارقاً‭ ‬في‭ ‬تعاسته،‭ ‬وقد‭ ‬ضاق‭ ‬صدره‭ ‬بالكلّ،‭ ‬فإنه‭ ‬كان‭ ‬يحطّ‭ ‬من‭ ‬قدر‭ ‬بعضهم،‭ ‬ويسمّي‭ ‬النقاد‭ ‬بـ‭ ‬‭”‬النقاقيد‭”‬،‭ ‬واتحاد‭ ‬الأدباء‭ ‬ب‭ “‬اتحاد‭ ‬الكتباء‭”.. ‬وكان‭ ‬يقول‭: ‬هؤلاء‭ ‬الأدباء‭ ‬عندما‭ ‬رأوا‭ ‬رأس‭ ‬الطير‭ ‬الطائر‭ ‬فإنهم‭ ‬خافوا‭ ‬على‭ ‬رؤوسهم‭!.‬

‏وفي‭ ‬البداية‭ ‬كان‭ ‬صفاء‭ ‬ميسور‭ ‬الحال،‭ ‬كثير‭ ‬النفقات،‭ ‬ثمّ‭ ‬أصبح‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬الإفلاس‭ ‬ومن‭ ‬الشحّة‭ ‬ومن‭ ‬خواء‭ ‬الجيوب،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬متلافاً‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬السفه،‭ ‬باذخ‭ ‬الكرم‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬أشدّ‭ ‬حالاته‭ ‬عسراً‭.. ‬وكانت‭ ‬جماعة‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬قد‭ ‬هجرت‭ ‬اتحاد‭ ‬الأدباء،‭ ‬وأصبحت‭ ‬تستعين‭ ‬به‭ ‬كلّما‭ ‬دعت‭ ‬الحاجة‭ ‬أن‭ “‬ترتفع‭ ‬في‭ ‬الجو‭ ‬النشوة،‭ ‬ويتمايل‭ ‬الحضور‭ ‬يمنة‭ ‬ويسرة،‭ ‬ويعمّ‭ ‬السرور،‭ ‬ويندفع‭ ‬الجميع‭ ‬في‭ ‬جو‭ ‬كلّه‭ ‬طرب‭ ‬وحبور‭”. ‬

‏وكان‭ ‬صفاء‭ ‬يحكي‭ ‬دائماً‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬لكلّ‭ ‬من‭ ‬يلقاه‭ ‬عن‭ ‬أدق‭ ‬تفاصيل‭ ‬السهرة،‭ ‬ثمّ‭ ‬عندما‭ ‬مات‭ ‬تفرّقوا‭ ‬من‭ ‬بعده،‭ ‬وأصبح‭ ‬البيت‭ ‬ركناً‭ ‬مهملاً،‭ ‬تكوّم‭ ‬أطلالاً‭ ‬عفا‭ ‬عليه‭ ‬الزمن‭ ‬وجار‭!.‬

‏وكان‭ ‬يقول‭: ‬إنه‭ ‬أشعر‭ ‬من‭ ‬الجن،‭ ‬وإن‭ ‬الشعر‭ ‬يأتيه‭ ‬وهو‭ ‬نائم‭. ‬يكتب‭ ‬ملحمة‭ ‬شعرية‭ ‬بكاملها‭ ‬وهو‭ ‬نائم‭ ‬فإذا‭ ‬استيقظ‭ ‬من‭ ‬نومه‭ ‬دوّنها‭ ‬على‭ ‬الورق،‭ ‬ويفخر‭ ‬أنه‭ ‬صنع‭ ‬شاعرين‭ ‬كبيرين‭: ‬حسين‭ ‬مردان‭ ‬وكان‭ ‬صفاء‭ ‬يقرضه‭ ‬المال‭ ‬ويعلم‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يعيد‭ ‬إليه‭ ‬شيئاً‭ ‬مما‭ ‬يستدين،‭ ‬والثاني‭ ‬أخيه‭ ‬الأصغر‭ ‬بلند‭ ‬،‭ ‬ويتكلّف‭ ‬قليلاً‭ ‬فيزيد،‭ ‬أن‭ ‬بدر‭ ‬شاكر‭ ‬السياب‭ ‬سرق‭ ‬منه‭ ‬قصيدة‭ “‬زقاق‭” ‬وقلّده‭ ‬في‭ ‬صورها‭ ‬وأجوائها،‭ ‬وكتب‭ ‬من‭ ‬بعدها‭ “‬المومس‭ ‬العمياء‭”!.‬

‏وكان‭ ‬على‭ ‬اشدّ‭ ‬الخلاف‭ ‬مع‭ ‬أخيه‭ ‬بلند،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬عقدته‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬والحياة،‭ ‬ويصفه‭ ‬بأنه‭ “‬بلا‭ ‬حميميّة‭”‬،‭ ‬وعندما‭ ‬يعرض‭ ‬إلى‭ ‬ذكره‭ ‬فإنه‭ ‬ينزف‭ ‬جميع‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬شرايينه‭ ‬وأوردته‭ ‬من‭ ‬الدم،‭ ‬ويقطر‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬روحه‭ ‬من‭ ‬الضياء،‭ ‬وتهطل‭ ‬دموع‭ ‬على‭ ‬خدّه‭ .. ‬وكان‭ ‬يقول‭ ‬لي‭ ‬بغضب‭ ‬همجيّ‭: ‬إذا‭ ‬غسلت‭ ‬الكلب‭ ‬في‭ ‬المحيطات‭ ‬السبعة‭ ‬سيخرج‭ ‬منها‭ ‬أكثر‭ ‬قذارة‭!.‬

‏ولم‭ ‬يكن‭ ‬يستثني‭ ‬من‭ ‬الكلاب‭ ‬إلا‭ ‬كلبه‭ “‬بلاكي‭” ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬صديق‭ ‬عمره‭ ‬ورفيق‭ ‬عزلته‭.. ‬ينام‭ ‬معه‭ ‬على‭ ‬سرير‭ ‬واحد،‭ ‬ويأكلان‭ ‬من‭ ‬ماعون‭ ‬واحد،‭ ‬فلمّا‭ ‬مات‭ ‬صفاء‭ ‬مات‭ ‬بلاكي‭ ‬بعده‭ ‬بيوم‭ ‬واحد‭!. ‬

‏وإذا‭ ‬كانت‭ ‬عين‭ ‬الرضا‭ ‬عن‭ ‬كلّ‭ ‬عيب‭ ‬كليلة‭.. ‬وحبّك‭ ‬للشيء‭ ‬يعمي‭ ‬ويصمّ‭ ‬عن‭ ‬العيوب‭.. ‬فلقد‭ ‬أحببت‭ ‬صفاء‭ ‬الحيدري‭.. ‬وربما‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الشوك‭ ‬الذي‭ ‬في‭ ‬الورد،‭ ‬فإننا‭ ‬نحبّ‭ ‬الورد‭!.‬



Most Read

2024-09-24 05:23:15