Breaking News >> News >> Azzaman


طعم المنشور الأول- علي السوداني


Link [2022-02-08 02:52:53]



حدث‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬قبل‭ ‬نحو‭ ‬أربعين‭ ‬سنة‭ ‬بمقهى‭ ‬حسن‭ ‬عجمي‭ ‬ببغداد‭ ‬العباسية‭ ‬البديعة‭ . ‬

كنت‭ ‬أيامها‭ ‬على‭ ‬دهشة‭ ‬وذهول‭ ‬وحب‭ ‬وإعجاب‭ ‬بالأدباء‭ ‬قد‭ ‬يصل‭ ‬حد‭ ‬التقديس‭ ‬والرضا‭ ‬المطلق‭ ‬،‭ ‬ولم‭ ‬أصل‭ ‬بعد‭ ‬الى‭ ‬المرحلة‭ ‬الحاسمة‭ ‬في‭ ‬التفريق‭ ‬بين‭ ‬الكاتب‭ ‬والنص‭ ‬الذي‭ ‬ينتجه‭ ‬،‭ ‬وبعد‭ ‬تراكم‭ ‬السنوات‭ ‬وتعدد‭ ‬القراءات‭ ‬وخبرة‭ ‬الدرابين‭ ‬والثنيات‭ ‬واكتساب‭ ‬الوعي‭ ‬،‭ ‬تبين‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬جمال‭ ‬وعطرالقصيدة‭ ‬والقصة‭ ‬والرواية‭ ‬ليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬أديب‭ ‬جميل‭ ‬وطيب‭ ‬ورائع‭ ‬،‭ ‬حيث‭ ‬الفصام‭ ‬بين‭ ‬الأديب‭ ‬وحروفه‭ ‬صار‭ ‬ظاهرة‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬اكتشافها‭ ‬بقليل‭ ‬من‭ ‬الكد‭ ‬والفحص‭ ‬والمعايشة‭ ‬،‭ ‬فكم‭ ‬من‭ ‬نص‭ ‬مدهش‭ ‬عاطر‭ ‬لذيذ‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬كاتب‭ ‬شرير‭ !!‬

مر‭ ‬اليوم‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬المعتق‭ ‬مروراً‭ ‬هائلاً‭ ‬كنت‭ ‬فيه‭ ‬مثل‭ ‬تلميذ‭ ‬مهذب‭ ‬خجول‭ ‬أوصلته‭ ‬أمه‭ ‬إلى‭ ‬باب‭ ‬المدرسة‭ ‬،‭ ‬وعندما‭ ‬منحته‭ ‬ظهرها‭ ‬وعباءتها‭ ‬السوداء‭ ‬وغادرت‭ ‬،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بمقدورها‭ ‬الإنصات‭ ‬إلى‭ ‬جهشاته‭ ‬ورؤية‭ ‬سيحان‭ ‬الدمع‭ ‬على‭ ‬وجنتيه‭ ‬المحمرتين‭ !!‬

هناك‭ ‬ببطن‭ ‬المقهى‭ ‬العجيبة‭ ‬كانت‭ ‬حروفي‭ ‬تطبخ‭ ‬ببطء‭ ‬شديد‭ ‬،‭ ‬وأحياناً‭ ‬بعجالة‭ ‬تذهب‭ ‬مذهب‭ ‬عشق‭ ‬النشر‭ ‬وظهور‭ ‬الإسم‭ ‬على‭ ‬صفحة‭ ‬جريدة‭ ‬أو‭ ‬مجلة‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬بائسة‭ ‬وفوق‭ ‬مساحة‭ ‬صغيرة‭ ‬عنوانها‭ ‬أقلام‭ ‬واعدة‭ ‬أو‭ ‬مساهمات‭ ‬القراء‭ !!‬

في‭ ‬السنوات‭ ‬اللاحقة‭ ‬التي‭ ‬ركضت‭ ‬بسرعة‭ ‬،‭ ‬عرفت‭ ‬كبار‭ ‬الأدباء‭ ‬ومنهم‭ ‬موسى‭ ‬كريدي‭ ‬وأحمد‭ ‬خلف‭ ‬وعبد‭ ‬الستار‭ ‬ناصر‭ ‬ويوسف‭ ‬الحيدري‭ ‬وعبد‭ ‬الخالق‭ ‬الركابي‭ ‬مع‭ ‬غياب‭ ‬مروع‭ ‬ومخجل‭ ‬للنساء‭ ‬الأديبات‭ ‬عن‭ ‬تخوت‭ ‬المقهى‭ ‬وضجيجها‭ ‬المفيد‭ ‬،‭ ‬وتالياً‭ ‬صادقت‭ ‬وجالست‭ ‬وخامرت‭ ‬معظم‭ ‬نجوم‭ ‬جيل‭ ‬السبعينات‭ ‬،‭ ‬ثم‭ ‬حططت‭ ‬الرحال‭ ‬والراحلة‭ ‬بخاصرة‭ ‬جيل‭ ‬الثمانينات‭ ‬الذي‭ ‬أنتمي‭ ‬إليه‭ ‬قلباً‭ ‬وعقلاً‭ ‬وشكلاً‭ ‬وصعلكة‭ ‬،‭ ‬حيث‭ ‬بدأت‭ ‬منشوراتي‭ ‬تظهر‭ ‬في‭ ‬الجرائد‭ ‬والمجلات‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬ذلك‭ ‬العقد‭ ‬البديع‭ .‬

على‭ ‬باب‭ ‬عصرية‭ ‬جديدة‭ ‬دلفت‭ ‬إلى‭ ‬المقهى‭ ‬العزيز‭ ‬فوجدت‭ ‬القاص‭ ‬موسى‭ ‬كريدي‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬أول‭ ‬رشفات‭ ‬الشاي‭ ‬النازل‭ ‬من‭ ‬يمين‭ ‬النادل‭ ‬الطيب‭ ‬العبوس‭ ‬أبي‭ ‬داوود‭ . ‬سلمت‭ ‬عليه‭ ‬فرد‭ ‬السلام‭ ‬بأحسن‭ ‬منه‭ . ‬سألني‭ ‬عن‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬تأبطته‭ ‬من‭ ‬شارع‭ ‬المتنبي‭ ‬حتى‭ ‬عتبة‭ ‬المقهى‭ ‬،‭ ‬وزاد‭ ‬بسؤال‭ ‬آخر‭ ‬عن‭ ‬أوراق‭ ‬عشوائية‭ ‬كانت‭ ‬تنام‭ ‬بين‭ ‬الدفتين‭ ‬،‭ ‬فقدمتها‭ ‬إليه‭ ‬وأخبرته‭ ‬بأنها‭ ‬محاولات‭ ‬لكتابة‭ ‬قصيدة‭ . ‬كان‭ ‬هو‭ ‬يقرأ‭ ‬بصمت‭ ‬وأنا‭ ‬أنتظر‭ ‬بشغف‭ ‬شهادة‭ ‬حسن‭ ‬الكتابة‭ ‬والسلوك‭ ‬والخاتمة‭ .‬

بعد‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬الصمت‭ ‬المهيب‭ ‬اقترح‭ ‬علي‭ ‬القاص‭ ‬المعلم‭ ‬موسى‭ ‬أن‭ ‬أرسلها‭ ‬إلى‭ ‬مجلة‭ ‬الطليعة‭ ‬الأدبية‭ ‬التي‭ ‬عرفت‭ ‬بأنها‭ ‬صانعة‭ ‬الأدباء‭ ‬الشباب‭ ‬،‭ ‬ففعلت‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬تمام‭ ‬صباح‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ .‬

انتظرت‭ ‬ثلاثة‭ ‬شهور‭ ‬حتى‭ ‬نشرت‭ ‬لي‭ ‬المجلة‭ ‬نصين‭ ‬صغيرين‭ ‬بباب‭ ‬الأصدقاء‭ ‬الأغضاض‭ .‬

ما‭ ‬زال‭ ‬طعم‭ ‬وسحر‭ ‬تلك‭ ‬القصاصة‭ ‬الورقية‭ ‬التي‭ ‬حملت‭ ‬حروفي‭ ‬الإبتدائية‭ ‬الخجولة‭ ‬يلبط‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬وصلت‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬باب‭ ‬كتابي‭ ‬الثاني‭ ‬عشر‭ . ‬



Most Read

2024-09-24 07:26:02