حدث هذا الأمر قبل نحو أربعين سنة بمقهى حسن عجمي ببغداد العباسية البديعة .
كنت أيامها على دهشة وذهول وحب وإعجاب بالأدباء قد يصل حد التقديس والرضا المطلق ، ولم أصل بعد الى المرحلة الحاسمة في التفريق بين الكاتب والنص الذي ينتجه ، وبعد تراكم السنوات وتعدد القراءات وخبرة الدرابين والثنيات واكتساب الوعي ، تبين لي أن جمال وعطرالقصيدة والقصة والرواية ليس بالضرورة أن يخرج من أديب جميل وطيب ورائع ، حيث الفصام بين الأديب وحروفه صار ظاهرة ليس من الصعب اكتشافها بقليل من الكد والفحص والمعايشة ، فكم من نص مدهش عاطر لذيذ كان قد خرج من كاتب شرير !!
مر اليوم الأول في هذا المكان المعتق مروراً هائلاً كنت فيه مثل تلميذ مهذب خجول أوصلته أمه إلى باب المدرسة ، وعندما منحته ظهرها وعباءتها السوداء وغادرت ، لم يكن بمقدورها الإنصات إلى جهشاته ورؤية سيحان الدمع على وجنتيه المحمرتين !!
هناك ببطن المقهى العجيبة كانت حروفي تطبخ ببطء شديد ، وأحياناً بعجالة تذهب مذهب عشق النشر وظهور الإسم على صفحة جريدة أو مجلة حتى لو كانت بائسة وفوق مساحة صغيرة عنوانها أقلام واعدة أو مساهمات القراء !!
في السنوات اللاحقة التي ركضت بسرعة ، عرفت كبار الأدباء ومنهم موسى كريدي وأحمد خلف وعبد الستار ناصر ويوسف الحيدري وعبد الخالق الركابي مع غياب مروع ومخجل للنساء الأديبات عن تخوت المقهى وضجيجها المفيد ، وتالياً صادقت وجالست وخامرت معظم نجوم جيل السبعينات ، ثم حططت الرحال والراحلة بخاصرة جيل الثمانينات الذي أنتمي إليه قلباً وعقلاً وشكلاً وصعلكة ، حيث بدأت منشوراتي تظهر في الجرائد والمجلات في النصف الثاني من حياة ذلك العقد البديع .
على باب عصرية جديدة دلفت إلى المقهى العزيز فوجدت القاص موسى كريدي وهو على أول رشفات الشاي النازل من يمين النادل الطيب العبوس أبي داوود . سلمت عليه فرد السلام بأحسن منه . سألني عن الكتاب الذي تأبطته من شارع المتنبي حتى عتبة المقهى ، وزاد بسؤال آخر عن أوراق عشوائية كانت تنام بين الدفتين ، فقدمتها إليه وأخبرته بأنها محاولات لكتابة قصيدة . كان هو يقرأ بصمت وأنا أنتظر بشغف شهادة حسن الكتابة والسلوك والخاتمة .
بعد قليل من الصمت المهيب اقترح علي القاص المعلم موسى أن أرسلها إلى مجلة الطليعة الأدبية التي عرفت بأنها صانعة الأدباء الشباب ، ففعلت ذلك في تمام صباح اليوم التالي .
انتظرت ثلاثة شهور حتى نشرت لي المجلة نصين صغيرين بباب الأصدقاء الأغضاض .
ما زال طعم وسحر تلك القصاصة الورقية التي حملت حروفي الإبتدائية الخجولة يلبط في الذاكرة حتى اليوم الذي وصلت فيه إلى باب كتابي الثاني عشر .
2024-09-24 07:26:02