هناك حكاية تقول إن آدم عليه السلام سكن هيت ردحاً من الزمن.
والنبي نوح عليه السلام كان قد بنى سفينته من عيون القير في هيت.
ومن هذه العيون أيضاً كُسيت شوارع مدينة بابل التاريخية عاصمة حمورابي ونبوخذ نصر.
وفي هيت مرّ أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام في طريق هجرته من أور إلى بلاد الشام وفلسطين ومنهما إلى مصر ثم إلى مكة المكرمة لبناء الكعبة!.
وفي كتاب “هيت.. مدينة ورجال” لمؤلفه صديقنا الدكتور قحطان محمد صالح الهيتي ما يستحق منك اهتماماً. إنه يأخذك في رحلة ممتعة على جناح طائر لترى معالم هيت وتقف على آثارها. وتتذكر بكثير من الشوق عند أطلالها. من القلعة إلى الشاقوفة. ومن عيون المها إلى عيون القير. ومن وادي الغضا إلى وادي العيدي. ومن وادي حوران إلى المملحة.. وكيف سبقت في الوجود حضارة سومر، وباب عشتار، وبناء الزقورات، وأبراج بابل؟!.
وينقلك المؤلف بصوره الأدبية وسرده التاريخي من جبل “التوباد” إلى بساتين “الخوضة”، ومن جبل “الريَّان” إلى “السهيليّة”، و”الدرستانية”، و”القبانية”، و”المجنون”. فترى في هذه البلدة الوديعة الناعسة النائمة على ضفاف الفرات ما لا تراه في أجمل مدن العالم.
وهذا الكتاب يجيبك عن اسئلة ظريفة مشوِّقة. فأنت تعرف مثلاً سرَّ “القاف” في لهجة أهل هيت؟.
ولماذا يُسمّون “التوت” بالفرطاس ويسمّيه أهل حديثة ب”الفرطوس” بينما هو “تُكِّي” في لهجة أهل بغداد؟.
وتقرأ من الحكايات والنوادر والقفشات نثراً وشعراً عن أقدم مسجد بناه الخليفة الفاروق رضي الله عنه. وأعلى مئذنة في الدنيا. وأول مدرسة ابتدائية. وأول معلم. وأول مستوصف. وأول مقهى بين الهيتاويّين. وأول بائع دخان. وأطيب أنواع البطيخ. وأقدم شجرة نارنج. وأطول نخلة في هذه المدينة؟.
وكان ابن هيت أستاذنا مدني صالح يقول لي كلما تذكّر نخلات يملكها في بستان هناك: إن الإنسان بلا نخل معدوم في عدم، وإن من لا نخلة له لا وجود له، وإذا أضاع الإنسان نخلة فقد ضاع وجوده!.
وفي هذه المدينة تجولت عالمة الآثار البريطانية المس بيل على ظهور الجمال وكتبت من هيت أجمل رسائل الشوق إلى والدها.. مثلما تقرأ “حكايات رجال طيّبين” وتتعرف على شخصيات هيتاوية باهرة في كل مجال.
ولأن “كلّ امرئٍ يُولي الجميلَ مُحبّبُ.. وكلّ مكانٍ ينبتُ العزَّ طيِّبُ” قالها المتنبي قبل ألف عام. فإن مؤلف الكتاب مدين لهذه “المدينة الفاضلة” بعدما نفحته منها الصّبا بنسيم. وَحَنَتْ عليه حنو المرضعات على الفطيم. إنها ليست مجرد دار سُعدى في قلبه، أو دار عفراء في أسفار عشقه. ولا هي دار ميَّة بالعلياء ولا دار عبلة بالجواء. بل هي تهامته ونجده وشامه وبغداده.
لقد شعرت بالصديق قحطان الهيتي وأنا أنتهي من قراءة كتابه “هيت.. مدينة ورجال” كمن يتمنى لو استطاع أن يكتب على كل شجرة من أشجارها، وعلى كل جدار من جدرانها، وعلى كل باب من أبوابها، بيتاً من الشعر لذلك العاشق البدوي القائل في حبيبته:
إنّا تقاسمنا الغضـا فغصونــه
في راحتيكِ وجمره في أضلعي
2024-09-24 13:27:25